أراد عبيد الله بهذا الخطاب الذي تضمن أول حكم عرفي ينم عن حالة طوارئ تستعد السلطة الحاكمة لإعلانها،وأد الثورة في مهدها، أولاً وأما الهدف الثاني الذي أراده عامل الأمويين، بعد أن هاله ما رأى من تكتل جماهيري واستعداد كبير لانفجار ثوري يطيح برأس النظام الأموي الجائر والتفاف فريد من نوعه حول قيادة المعارضة، هو تفتيت القواعد الرئيسة، التي ارتكز عليها هذا التكتل، بزجه القيادات الشيعية في السجن والدعاية للجيش الشامي الذي أشيعت قصة تحركه المخترعة والاستفادة من الطابور الخامس بتسليل (معقل) كعنصر مخابراتي إلى داخل الصف المعارض فيما بعد. وبالفعل تم لابن زياد ما أراد وتفللت الحشود وأعيد للسلطة الحاكمة توازنها وهيمنت على الوضع من جديد وقد عزلت مسلماً وضيقت عليه الدائرة ليقع بعد قليل في الفخ الذي أعد له، بقليل جهد.
سفارة الحق وسفارة الباطل:
كان مسلم سفير الحسين للكوفيين، وعبيد الله سفير يزيد إليهم، إذن فهناك سفارتان وسفيران أحدهما يمثل جهة المعارضة والآخر يمثل جهة السلطان الحاكم بالسيف والنطع.ولننظر.. أيهما أزكى وأطهر وفقًا لنداء العقل والوجدان، قبل أن نحكم لأي منهما.
لقد تحلى السفير الأول مسلم بن عقيل بالإضافة إلى طهارة المولد وعراقة النسب وطيب النشأة بالعلم والفقاهة والحكمة وسداد الرأي وحسن التدبير والتقوى والعفة والوفاء بالعهد، سالكاً سبيل سلفه الصالح من أئمة الهدى وقادة الورى، بحيث أصبح في الغارب والسنام من كل فضيلة رابية، وما مدح المعصوم وهو الحسين (عليه السلام) في كتاب الولاية الذي أرسله بيد مسلم لأهل الكوفة وفيه يقول (أرسلت لكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي) إلا دليل ناصع على كل ما أثبتناه له من خلال وشمائل، فضلاً عن المسلّمة التي تفيد بأن إرسال ممثل أو نائب عن شخص ما، يخضع لاعتباراتٍ عدة ويشير إلى صفات وجدها المرسل في رسوله عند الاختيار، وهذا الأمر يجري مع الناس العاديين، فما بالك بالمعصومين من البشر؟!
على أننا لن نذكر لمسلم إلا واحدةً، تكفي بوحدها دلالة على سمو ذاته ورفعة نفسه في مقابل غضاضة خصمه ودناءته .. وذلك عندما امتنع هذا الفتى الهاشمي عن الفتك بعدوه كما تمنى عليه وطلب بإلحاح شديد شريك الأعور الذي نزل في دار هانئ بن عروة وقت كان مسلم ينزل فيها واتفق أن جاء عبيد الله بن زياد لعيادته إذ سمع بأنه مريض.. فقال لمسلم: إن غايتك وغاية شيعتك هلاكه فأقم في الخزانة حتى إذا اطمأن عندي اخرج إليه واقتله وأنا أكفيك أمره بالكوفة مع العافية.
فما كان جواب ابن عقيل ربيب الأطهار الميامين إلا أن قال بالفعل لا بالكلام: (إن الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مؤمن).
هذا هو رصيد سفير الحق مسلم بن عقيل من الخلق العظيم والتربية الرسالية التي تجلت بهذه الصورة البهية التي رسمها لنا التاريخ بريشة صدقه، والتي أهّلت مسلماً للقيام بأخطر مهمة في تأريخ الدبلوماسية الإسلامية.. فأروني أين يقف هذا السفير الخالد من سفير بني أمية الغادر عبيد الله؟!
في وسط الصحراء، على الرمال اللاهبة، وتحت أشعة الشمس المحرقة، كان فتى بني أسد يحث جواده على الإسراع في المسير.
كان الفتى الأسدي بالرغم من كل ما يعانيه من تعب وإجهاد، وما يلاقيه من مخاطر وصعوبات، منشرح الصدر، مبتهج الأسارير، فهو الآن في طريقه إلى الكوفة، يحمل جواب الإمام الحسين (عليه السلام) إلى زعمائها ورجالها، ويبشرهم بقرب وصوله، فإنها لن تمضي إلا أيام قلائل حتى يكون أبو عبد الله (عليه السلام) بين ظهرانيهم. جد قيس في مسيره بأقصى سرعة ممكنة، ولم يكن له هم إلا أن يصل إلى الكوفة التي تركها منذ أيام قلائل فقط عندما أرسله سفير الحسين مسلم بن عقيل إلى الإمام (عليه السلام) ليطلعه على مجريات الأمور، وتطورات الأحداث في الكوفة ويبشره بمبايعة أهله، وإعلان الولاء الكامل لآل الرسول، ويطلب منه الإسراع في المسير بعد أن أصبح الظرف ملائماً، ولم يبق ما يعيق دخوله إليها. أجل.. لم يكن أمام فتى بني أسد إلا الوصول إلى الكوفة ليبشر أهلها بقرب وصول الحسين (عليه السلام) الذي قدم إليها ليسير في الناس بسيرة أبيه فيهم من قبل، ويعيد الحق إلى صاحبه، ويحقق لهم أمنياتهم التي ماتت في قلوبهم إثر البطش الأموي.. ليبشرهم بالإمام الشرعي الذي بايعوه وبعثوا إليه آلاف الرسائل.
وهكذا.. قرر الإمام (عليه السلام) تلبية دعوتهم وتحقيق رغباتهم، وعزم على المسير إليهم، وأرسل إليهم ثقته وابن عمه مسلم بن عقيل ليرى الأمور هناك.
لقد طال عهد الكوفيين بالعدل والمساواة… وطال عهدهم بالأمن والاستقرار، فقد مضت عشرون سنة على مصرع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، كان المجتمع خلالها محروماً من كل شيء، ولم يعد لكلمات العدل والحق والأخوة أي معنى في أذهانهم بسبب ما لاقوه من الذل والهوان. وما تحملوه من الظلم والجور من الولاة الظلمة طوال تلك العشرين عاماً.
لعل بن مسهر الصيداوي كان هكذا يفكر وبمثل هذه الكلمات يحدث نفسه، وهو يجد السير في طريقه إلى الكوفة. وما أن وصل حتى رأى قد انقلب الوضع، وتغيرت الأمور. وأدار الكوفيون ظهرهم لمسلم، وتنكروا له، ونسوا وتناسوا كل العهود والمواثيق التي أعطوها له. وهكذا.. فما أن أحسوا بوصول عبيد الله بن زياد والياً عليهم من قبل يزيد بن معاوية، حتى أصيبوا بما يشبه المس، وصاروا وكأن على رؤوسهم الطير، وجعلوا يتفرقون عن مسلم زرافات ووحدانا حتى لم يبق معه أحد منهم بعد أن كانوا أكثر من ثمانية عشر ألف رجل مبايع… ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بتسليم مسلم وصاحبه هاني بن عروة إلى ابن زياد، حيث كانا أول رائدين لقافلة الشهداء على طريق كربلاء. ولم يكن ابن زياد بالرغم من كل ما حدث بالذي يطمئن إلى استقرار الأمور واستتبابها له خصوصاً وإنه يعرف أنه إذا استطاع الإمام الحسين (عليه السلام) وهو في طريقه إلى الكوفة أن يصل إليها ويدخلها، فربما استطاع أن يقلب الموازين، ويغير مجرى الأمور وينتزع الكوفة منه.
لذلك كله، عمل على أخذ جميع الاحتياطات التي رآها ضرورية في داخل وخارج الكوفة، ثم أوكل إلى صاحب شرطته الحصين بن تميم تنفيذ ذلك، فقام بما أوكل إليه.. منزل القادسية، ونظم الخيل ما بين القادسية إلى فغان، وما بين القادسية إلى القطقطانة، وإلى جبل لعلع، وبث العيون في جميع الجهات والأطراف، وأمر بتفتيش كل خارج أو قادم إلى الكوفة والتحقيق معه.
وهكذا.. فلم يكد فتى بني أسد يصل حتى فوجئ بما حدث وأدرك الحقيقة المرة فغشيته سحابة من الحزن العميق، ولكن لم يلبث أن تمالك نفسه، وفكر في ما يحيق به من خطر، فسارع إلى تمزيق كتب أبي عبد الله (عليه السلام) التي كتبها إلى زعماء الكوفة وأعيانها حفاظاً على حياتهم. ولم يكد لينتهي بن مسهر من تمزيق الكتب حتى ألقي عليه الحصين بن تميم القبض، وكبله بالأغلال وسارع بإرساله إلى ابن زياد، وقف قيس بن مسهر ثابت الجنان، راسخ الإيمان، لإيهاب الموت في سبيل مبدئه وعقيدته، وكيف يهاب الموت؟ وهو يعلم أنها الشهادة في سبيل الله والحق والعدالة.. من أنت؟
سأله ابن زياد بحدة وغضب، فأجابه ابن مسهر بهدوء واطمئنان: أنا من أتباع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابنه.
قال بن زياد: فلم خرقت الكتب؟ قال ابن مسهر بكل صراحة ووضوح: لئلا تعلم ما فيه. وحاول ابن زياد أن يهدأ أعصابه الثائرة فقال وهو يتصنع الهدوء والاتزان: وممن الكتاب وإلى من؟ فأجابه قيس: من الحسين إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسمائهم.
وعندما أدرك ابن زياد أنه لن يحصل من فتى بني أسد على أية معلومات ذات قيمة ثارت ثائرته ولم يتمالك نفسه وقال له وهو يرتجف من شدة الغضب: والله لا تفارقني حتى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم. أو تصعد المنبر وتسب الحسين بن علي وأباه وأخاه وإلا..
قطعتك ارباً ارباً: وهنا فرح قيس واطمأن خاطره، فقد سنحت له الفرصة المناسبة التي كان يظن أنها لن تأتي أبدا، وعرف أنه سوف يتمكن من إبلاغ رسالة الحسين (عليه السلام) إلى أهل الكوفة وزعمائها، فأجابه بقوله: أما القوم فلا أخبرك بأسمائهم، وأما سب الحسين وأبيه وأخيه فأفعل. ثم صعد المنبر والتفت إلى الجمع الحاشد في مجلس ابن زياد فوجه إليه الخطاب وقال لهم بعد أن افتتح كلامه بحمد الله والثناء عليه والصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) وأكثر من الترحم على علي والحسين : (أيها الناس إن هذا الحسين بن علي خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنا رسوله إليكم، وقد خلفته بالحاجر فأجيبوه. ثم ختم خطبته بلعن ابن زياد وأبيه وكل عتاة بني أمية. وما أن وصل في كلامه إلى هذه النقطة حتى انفجر ابن زياد من شدة الغضب، وأشار إلى شرطته وجلاديه يأمرهم أن يمسكوا ابن مسهر وأن يلقوا به من أعلى القصر إلى الأرض لتتقطع جميع أعضائه ويموت.
وعلم الإمام (عليه السلام) بقتل رسوله المؤمن، وما أبداه من شجاعة وجرأة وتفان في نصرة الحق والعدل، فتأثر تأثراً شديداً ولم يملك دمعة فبكاه ثم أبنه بهذه الكلمات: (إنا لله وإنا إليه راجعون، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا. اللهم اجعل له الجنة ثواباً. اللهم اجعل لنا ولشيعتنا منزلا كريماً، واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك، ورغائب مذخور ثوابك، إنك على كل شيء قدير).
وهكذا.. مضى قيس ابن مسهر الصيداوي الأسدي إلى ربه راضياً مرضياً، وكان الثالث في قافلة الشهداء الذين استشهدوا على طريق كربلاء.. وسطروا في سجل التاريخ الخالد بأحرف من نور أروع البطولات وأعظم التضحيات التي يمكن أن تبذل في سبيل الله.
المفضلات