اللهم صل على محمد وآل محمد
أبناء من هذا الزمان
كانت السماء تسيل من عينيها دموعا بيضاء كثيفة ،
و كأنها تستعيد ذكريات الشتاء الماضي ، حينذاك ، كانت الكرات الثلجية الصغيرة تتساقط ببراعة خلابة ، كانت ترسم لوحة فنية ساحرة تغمرها السعادة والمحبة على سطح الأرض ، تصنع الأم طعام العشاء بينما الأطفال في خارج البيت يلعبون بالكرات الثلجية الصغيرة ، راحت الأم تنادي بصوت حنون ،
: هيا يا أولاد العشاء بانتظاركم ،
جلسوا الأطفال الصغار على مقاعد طاولة الطعام إستعدادا للإنطلاق إلى عالم الاطباق الساخنة ، يغلق أحمد باب غرفته لطالما يمكث فيها أكثر الأوقات ، يبحث عن رائحة الطعام الجميلة ، حيث إنه الإبن الأكبر في العائلة ، يتناول طعامه بسرعة جنونية ، بينما تنتظر مريم وصوله بقطار الحب الكبير حتى يغرس في روحها ثمار العشق و الهوى ، جاء إليها بخطوات بطيئة وهي تنظر إلى جمال الأزهار ، فيضمها إلى صدره الحاني بحنين وشوق و بينما تقذف الأم الأوساخ في النفاية الصغيرة بين الأشجار والزهور ، انتبهت إلى أحمد يتحدث إلى فتاة
: أنا مشتاق إلى عينيك يامريم
بهمسات حنين وشوق
: وأنا أيضا مشتاقة إليك كثيرا يا حبيبي ،
تقترب الأم منهما بخطوات منكسرة ، متثاقلة ، حين وصلت إليهما نهضا من مكانهما خائفين و ارتسمت علامات الصمت على محياهما ، و لكن أحمد سرعان ما كسر حاجز الصمت : لحظة يا أمي دعيني أشرح لك الأمر ، إنها زوجتي سرا ،،،
لم تحتمل الأم الصدمة وإذ تسقط على الأرض فاقدة الوعي ، يصرخ أحمد في وجه مريم
:إذهبي وأحضري كوب ماء بارد بسرعة ،
و بينما ينظر أحمد إلى أمه بعينين خائفتين ، أحضرت أم مريم كوب ماء بارد و بللت وجهها لعلها تستيقظ و تفتح عينيها الذابلتين ، نهضت بعيون من نار ،
: أنت لست إبني الذي تعبت من أجله و سهرت الليالي لأجل راحته ،،،
تصفعه صفعة خيبة أمل وتهتف
: ليس لك عودة للبيت ثانية ،،،
يهتف أحمد بلهجة صارمة ،
: لقد تحدثت إليك كثيرا عن مريم و أنا أراها الزوجة المناسبة و كلما فتحت لك هذه السيرة ، يكون قرارك بالرفض النهائي وقولك : إبحث عن فتاة أخرى ،،،
صمت قليلا وعاد يقول بلهجة صارمة ،
: سوف نعلن زواجنا في الأيام القادمة ،
عادت الأم إلى البيت دون اكتراث ،
و ترى إبنها الصغير حسن الذي لا يتجاوز الثامنة من عمره . يلعب بالألعاب النارية ، تأخذه بيدين خائفتين ،
: لا يا عزيزي لا تلعب بهذه الألعاب ثانية قد تؤذي نفسك
لا سمح الله ،،، يهتف بصوت حزين ،
:::حاضر يا أمي لن ألعب بها ثانية ،
يمكث أحمد في بيت أم مريم حيث لم يجد مسكن آخر يلجأ إليه ، تخلد الأم إلى النوم بعد الإطمئنان على أطفالها الصغار سالمون في نوم عميق ، ترى الأم أحلام سوداء وكأنها مقاطع فيديو ، تعلن الإنتهاء و تعود للبداية من جديد ، حينما استيقظت الأم على صوت الصباح الدافئ ، تنهض من السرير بدموع منهدرة على الخدين ، تتفقد غرفة أحمد ، تشم رائحة الفقد ، ترفع يديها إلى السماء تدعو بقلب خاشع ،
: ربي يسر أمره وأشرح صدره ياأرحم الراحمين ،
تفتح النافذة على مصراعيها تتأمل الصباح الدافئ ، تنظر إلى البقعة الصفراء الملتصقة بجدار السماء المفعمة بالضياء الخلاب ، وتسمع تغاريد العصافير الصباحية التي تشرح الصدر و تزيل أوساخ الروح الهامدة ، وتشم عطر السعادة الذي يتناثر في جو ساحر فيفتح كل أبواب الفرح في قلوب البشر ، بعد عاصفة ثلجية قذفتها عين السماء في جوف الأرض بالأمس ، أصبح اليوم ساخنا بأنوار الشمس الذهبية ، معلنا بداية يوم جديد مليء بالتفاؤل والسعادة ، لم تعد تحتمل الأم فراق إبنها أحمد عنها و لطالما كانت في كل صباح ومساء تملأ عينيها الحنونتين بهيكله العذب ، راحت تقرع جرس بيت أم مريم ، فتحت أم مريم الباب ، تهتف الأم بإبتسامة شفافة ،
:::: صباح الخير
:::: صباح النور ، أهلا وسهلا تفضلي ،
حينما خرج أحمد من الغرفة سمع صوت أمه ، عاد إلى الداخل يخاطب نفسه ،
:::: ماذا أفعل ، هل أخرج و أقبل رأسها لعلها ترضى علي أو أبقى هنا ، ما هي إلا لحظات قصيرة وإذ تدخل الأم بقلب حنون : ألا تريد رؤية أمك يا عزيزي ؟
اندفع نحوها باشتياق ولهفة وكأن سنينا مضت لم يذق طعم الحنان ، وكانت مريم تتلصص صامتة بلا حراك إلى حديث الأم ،
: أريدك أن تنسى هذه الفتاة ، إنها سيئة السمعة ، حينها سقطت على الأرض وكأنها زهرة ذابلة ، تناثر حولها ورود خائفة ، أخذتها أيدي أمينة ،حانية ، و أوصلتها المشفى ، ثمة دموع كثيفة تتساقط على البحر الحزين ، بعد الفحص الطبي والتحاليل الشاملة أتضح إنها حامل في الشهر الثالث ، صعق الجميع من هول هذا الخبر ، وكأن في عيني أحمد بركان ثائر سيتفجر و يعلن لقد حان وقت عاصفة الجحيم ، يهتف بغضب شديد ،
: من الذي فعل بك هذا ؟ منذ شهرين تزوجنا سرا ، فكيف حدث هذا ؟ أخبريني ، تحدثي وإلا سأقتلك أتفهمين ؟ ،
عقله الشارد يكاد يصيبه بالجنون ،
إنها في حالة من الصمت والخوف الشديد ، تسيل الدموع على قارعة شفتيها ، تستعيد ذكرى ليلة زفاف صديقتها و ما حدث لها أثناء طريق العودة إلى البيت ، كانت مريم تريد أن تنسى قسوة الماضي ، كانت خائفة جدا من البوح ، إنها ستفقد الحب الذي يجري في شرايينها ، وحينذاك سينمو الظلام في عينيها ، بعد تفكير عميق قررت مريم فتح جرح الماضي ، تهتف و الدموع تتناثر على خديها الهزيلين : ليتني بقيت في البيت تحت طوعك ياأمي ، ليتني لم ألمس الشارع المحظور ، آه يا أمي لما حدث ما حدث ،
يهتف أحمد بغضب شديد ،
: هيا أخبرينا مالذي حدث ؟
: كان الوقت متأخرا حين غادرت حفل الزفاف ، كان الشارع صامتا وكأن ثمة رجل يطاردني ، إنه الشرطي الذي يعمل حارس ليلي عند مركز إمارة المنطقة ، عندما أقترب مني صرخت بأعلى صوت ولكن ليس هنالك أحد يسمع ندائي ،كتم أنفاسي وأدخلني الإمارة واغتصبني في غرفة صغيرة ، و فر هاربا ،،، تهتف أم مريم بنبرة حادة :
بالله عليك ، ماذا فعلت بنفسك ؟ولكن كان هذا عقابا كي تسمعين كلامي ثانية ، ألم أقل لك مرارا لا تذهبي إلى حفل الزفاف البعيد عن البيت ؟
دخلت الطبيبة تعلن إنتهاء وقت الزيارة ، خرجوا من الغرفة ،و عند باب المشفى الكبير ، مجموعة من الرجال يرتدون المعاطف البيضاء يقودون عربة على رأسها مريض وحين انتبهت الأم إلى المريض صاحت بأعلى صوت : ولدي حسن ،
بينما راحت أم مريم تهدئ من روعها ،
: لاتقلقي ، سيكون بخير إن شاء الله
خرج الدكتور من الغرفة يهتف بنبرة حزينة : أقول لكم بصراحة تامة ووضوح للأسف هذا الصغير راح ضحية الألعاب النارية ، أصيبت العين بحروق بالجفن والجبين تشوه قليلا ،
و انفجرت الأم تبكي وتهتف :
ضاع ولدي لقد نصحته كثيرا و ها هو الآن سيفقد عينه
يهتف أحمد وهو يهدئ من روعها : لا تقولي هذا ثانية ، سيكون بخير بأذن الله سبحانه بيده الشفاء و العافية و هو على كل شي قدير .
المفضلات