ثم صاح (ع ) : أما من مغيث يغيثنا ؟ أما من ذاب يذب عن حرم رسول اللّه ؟
فارتفعت أصوات النساء بالبكاء ، وسمع الأنصاريان سعد بن الحارث وأخوهُ أبو الحتوف إستنصار الحسين واستغاثته وكانا مع ابن سعد .
فمالا بسيفيهما على أعداء الحسين (ع ) وقاتلا قتالا شديدا حتى قَتلا جمعاً
من الأعداء ، حتى صُرعا رضوان الله عليهم ،
وأخذ أصحاب الحسين(ع ) ، بعد أن قلَّ عددهم وبان النقص فيهم ، يبرز الرجل بعد الرجل فأكثروا القتل في أعداء الله ،
فصاح عمرو بن الحجاج : أتدرون من تقاتلون ؟ تقاتلون فرسان المصر ، وأهل البصائر وقوم مستميتين ، لا يبرز إليهم أحد منكم إلّا قتلوه على قلّتهم واللّه لو لم ترموهم بالحجارة لما تمكنتم من قتلهم.
فقال: عمر بن سعد : صدقت الرأي ، أرسل في الناس من يعزم عليهم
أن لا يبارزهم أحد منكم ، ولو خرجتم إليهم وحدانا لأتوا عليكم..
ثمّ حمل عمرو بن الحجاج على ميمنة الحسين(ع ) فثبتوا له، وجثوا على الرُكب ، واشرعوا الرماح ، فلمّا ذهبت الخيل لترجع رشقهم أصحاب الحسين(ع ) بالنبل ، فصرعوا رجالاً وجرحوا آخرين..
فحمل عمرو بن الحجاج من نحو الفرات ، فاقتتلوا ساعة ، وفيها قاتل مسلم بن عوسجة قتالاً شديداً ، فقتل عدداً من الأعداء ، فلمّا رأوا كثرة من قُتِل منهم شدّ عليه مسلم بن عبد اللّه الضبابي وعبد اللّه البجلي ، فشدّ عليهم ابن عوسجة وثارت لشدّة الجلاد غبرة شديدة وما انجلت الغُبرة إلّا ومسلم بن عوسجة صريعاً وبه رمق ، فمشى إليه الحسين(ع ) ومعه حبيب بن مظاهر ،
فقال له الحسين( ع ) رحمكَ اللّه يا مسلم ، ثم تلا
( فَمِنهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلوا تَبْدِيلاً) .
ودنا منه حبيب ، وقال : عزَّ عليَّ مصرعُكَ يا مسلم ، أبشر بالجنة.
فقال : مسلم بن عوسجة بصوت ضعيف : بشرَّكَ اللّه بخير ، ثم قال له حبيب : لو لم أعلم أني في الأثر لأحببتُ أن توصي لي بجميع ما يهمكَ. فقال له مسلم : أوصيكَ بهذا ، وأشار إلى الحسين بن علي ، أن تموت دونه .
فقال : أفعل وربّ الكعبة ، وفاضت روحُه بينهما رضوان اللّه عليه .
وصاحت جارية له : وا مسلماه ! يا سيداه ! يا بن عوسجتاه ،
فتنادى أصحاب ابن الحجاج ، قتلنا مسلماً !
فقال شبث بن ربعي لمن حوله : ثكلتكم أُمهاتكم ، أيُقتل مثلُ مسلم وتفرحون ، لَرُبّ موقف له في المسلمين كريم ، رأيته يوم أذربيجان ، وقد قتَل ستة من المشركين قبل التئام خيول المسلمين .
وحمل الشمر في جماعة من أصحابه على ميسرة الحسين(ع ) فثبتوا لهم ، حتّى كشفوهم ، وفيما قاتل عبد اللّه بن عُمير الكلبي ، قتال الأبطال ،فقتل رجالاً ، وجرح آخرين ، فشدّ عليه هاني بن ثبيت الحضرمي فقطع يده اليمنى ، وقطع
بكر بن حي ساقه ، فأُخِذ أسيراً وقُتِل صبراً رضوان اللّه عليه ، فمشت إليه
زوجته أُم وهب وجلست عند رأسه تمسح الدم عنه ، وتقول : هنيئاً لكَ الجنّة ،
أسأل اللّه الذي رزقك الجنة أن يصحبني معك .
فقال الشمر لغلامه : اضرب رأسها بالعمود ، فشدخه وماتت مكانها ،
وهي أول امرأة قُتِلت يوم عاشوراء من أصحاب الحسين بن علي عليه السلام ،
ثم قُطِع رأسه ورمي به إلى جهة الحسين(ع ) فأخذته أُمه ومسحت الدم عنه ،
ثم أخذت عمود خيمة ، وبرزت إلى الأعداء ، فردها الحسين(ع )
وقال : ارجعي رحمكِ اللّه ، فقد وُضِع عنكِ الجهاد ، فرجعت ...
وهي تقول : اللّهم لا تقطع رجائي . فقال الحسين(ع ) : لا يقطع اللّه رجاك .
ثم برز وهب بن عبد اللّه بن حُباب الكلبىّ‏ وكان نصرانياً ، فاسلم على يدي الحسين(ع ) وكانت معه اُمه وزوجته ، فقالت أُمه قم يا بني وانصر ابن بنت رسول اللّه(ص ) . فقال : أفعل يا أُماه ولا أُقصّر ، فبرز وهو يقول :


إن تنكروني فأنا ابن كلبي سوف تروني وترون ضربـي
وحملتي وصولتي في الحربِ أدرك ثأري بعد ثأر صحبي
وأدفع الكرب أمام الكربِ ـليس جهادي في الوغى باللعـبِ