أنشأ يقول :




لَمْ أَنْسَهُ إذْ قامَ فيهِم خاطِباً فإذا هُـمُ لا يَملِكـونَ خِطابـا
يَدْعو ألستُ أنا ابن بِنت نبيكُمْ وملاذَكُم إنْ صَرْفُ دهرٍ نابا
هَلْ جئْتُ في دينِ النّبيِّ ببِدْعَةٍ أمْ كُنْتُ في أحكامِهِ مُرْتابـا
أمْ لَمْ يُوصىِّ بنا النّبيُّ وأودَعَ الثّقْلَينْ فيكُمْ عِتْـرةً وكِتابـا
إنْ لَم‏ تدِينوا بالمَعادِ فراجِعوا أحسابِكُم إنْ كُنْتُـمُ أعْرابـا
فغَدوا حَيارى لا يَرونَ لِوعْظِهِ إلّا الأسِنّةَ والسِّهامْ جَوابـا




فأبى القوم إلاّ أن يزحفونَ نحوهُ ، وكانَ فيهم ابن حوزةَ التميمي ،
فصاحَ أفيكُم حُسَينْ ؟ وفي الثالثةِ قالَ أصحابُ الحُسين ..
هذا الحسينُ فما تريد ؟ قال : يا حُسينُ أبشر بالنار !!
قال الحسينُ(ع ) : كَذِبتَ ... بَل‏ أقدِمُ على ربٍ غَفورٍ كريمٍ مُطاعٍ شفيع ،
فمنْ أنت ؟قال : ابن حوزة .. فرفعَ الحُسينُ (ع) يديهِ ، حتى بانَ بياضُ أبُطَيه وقال : اللّهم حُزه الى النّار ... فَغَضِبَ ابنُ حوزة ، وأقحم الفرس إليه ... وكان بينهما نهرُ ، فسقطَ عنها ، وعَلُقتْ قَدمُهُ بالرِّكاب ، وجالتْ بهِ الفرس ،
فسقط عنها وانقطعتْ قدمُه وساقُه وفخِذه ، وبقي جانبُه الآخر مُعلّقاً بالرِّكاب ، وأخذتِ الفرس تَضربُ به كلَّ حجرٍ وشجرٌ حتى وقع في النار المستعرة في الخندق فاحترق وهَلك ...
قالَ مسروق بن وائل الحضرمي :
كُنتُ في‏أوَّلِ الخيل التي تقدّمتْ لِحربِ الحسينِ ( ع) لعلّي أنْ اُصيبَ رأس الحسين فأحظى به عند ابن زياد ، فلّما رأيت ما صنُع بابنِ حوزة ، عَرفتُ إنَّ لأهلِ هذا البيت حرمة ومنزلة عندَ اللّه ، وتركت الناس وقلتُ : لا أُقاتلهم فأكون في النار .
وخرج إليهم زهيرُ بن القين على فرس ذنوب ، وهو شاكٍ في السلاح ‘
فقال : يا أهل الكوفة نذارِ لَكُمْ من عذابِ اللّه ، إنَّ حقاً على المسلم
نصيحةَ أخيهِ المسلم ... ونحنُ حتى الآن إخوةٌ على دينٍ واحد ، ما لم يقع بيننا وبينكُم السيف ، وأنتم للنصيحة منّا أهل، فإذا وقعَ السيفُ...
انقطعتِ العصمة ، وكنّا أُمّة وأنتم أُمّة
إنّ اللّه ابتلانا وإيّاكم بذرية نبيّه محمّد(ص ) لينظرَ ما نحنُ وأنتم عاملون ،
إنّا ندعوكم إلى نصرِهم وخذلان الطاغية عُبيد اللّه بن زياد ، ويزيد ،
فإنّكم لا تدركون منهُما إلّا سوء عُمرِ سُلطا نهما ، يسملان أعينِكُم ،
ويقطعان أيديَكُم وأرجُلكُم ، ويُمثّلان بِكُم ، ويرفعانِكم على جذوع النخلِ ، ويقتلان أماثلكم وقراءكم ، أمثال حِجر بن عَدي وأصحابه ، وهاني بن عروة وأشباهه فسبّوه وأثنوا على ابن زياد ، ودعوا له وقالوا : لا نَبرحُ حتى
نَقُتلَ صاحِبُكَ ومن معه ، أو نبعث به وبأصحابه إلى عُبيدَ اللّه بن زياد سلماً !
فقال زهير : عِبادَ اللّه ، إنّ ولدَ فاطمةَ أحقُّ بالوُدِ والنصر من ابن سُمية ،
فإن لم تنصروهم فأُعيذُكم باللّهِ أنْ تقتلوهم ، فخلّوا بين هذا الرّجل وبينَ يزيد ، فلَعمري إنَّه لَيرضى من طاعتِكم بدون قتلِ الحسين (ع)
فرماهُ الشمرُ بسهمٍ وقال : اسكتْ ؛ أسكتَ اللّه نامتك ، أبَرمْتَنا بِكُثرةِ كلامِكِ . قال زهير : يابنَ البَوّال على عَقِبيه ، ما إياكَ أُخاطب ،
إنّما أنتَ بَهيمة .. واللّه ماأظنُّكَ تُحكِمُ من كتابِ اللّه آيتين ، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم ...
فقالَ الشمرُ : إنَّ اللّه قاتلكَ وصاحِبُكَ عن ساعة .
فقال زهير : أفبا لموت تخوفني ؟ فو اللّه للمَوت معهُ أحَبُّ إليَّ من الخلد معكم ، ثم أقبل على القوم رافعاً صوته وقال : عبادَ اللّه لا يغُرنّكم عن ديِنكم هذا الجِلفُ الجافي وأشباهَه ... فو اللّه لا تُنال شفاعةَ مُحمّدٍ قوماً أهرقوا دماءَ ذريته وأهل بيته ، وقَتلوا من نصرهُم وذبَّ عن حريمهِم .
واستأذنَ الحسينَ بريرُ بن خُضير في أنْ يُكلِّمَ القوم ، فأذنَ له ،
وكانً شيخاً تابعيّاً ، ناسِكاً ، قارئاً للقرآن ، ومن شيوخ القُرّاء في جامِعِ الكوفة ... ولهُ في الهَمَدانيين شرفٌ وقدرٌ ومنزلةٌ ، فوقفَ قريباً منهُم ونادى: يا معشرَ الناس إنَّ اللّهَ بعثَ مُحمّداً بشيراً ونذيراً ، وداعياً الى اللّه وسراجاً منيراً ، وهذا ماء الفرات تقَعُ فيه خنازيرُ السوادِ وكِلابه ، وقدْ حِيلَ بينه وبينَ ابن بنت رسول اللّه ، أفجزاءُ محمد هذا ؟
فقالوا : يا بُرير قدْ أكثرتَ الكلام فاكفف عنّا ، فواللّه ليعطش الحسين ، كما عطش من كان قبله !! قال : ياقوم إن ثِقلَ محمدٍ قد أصبحَ بين أظهركم ، وهولاء ذريته وعترته وبناتُه وحُرَمه ، فهاتوا ما عندكم وما الذي تريدون أن تصنعوه بهم ؟
فقالوا : نُريد أن نُمكّنَ منهم الأمير عُبيدِاللّه بن زياد ، فيرى فيهم رأيه .
قال : أفلا تقبلون منهم أن يرجعوا الى المكان الذي جاءوا منه ؟
ويلكم يا أهل الكوفة ، أنسيتم كتبكم ؟
ويلكم أدعوتم أهل بيت نبيكم وزعمتم أنكم تقتلون أنفسكم دونهم ،
حتى اذا أتَوكُم أسلمتموهم إلى ابن زياد ، وحلأتموهم عن ماء الفرات ،
بئس ما خلَّفتُم نبيكم في ذُريته مالكمُ ؟ لا أسقاكُم اللّه يومَ القيامة
فبئس القوم أنتم ...
فقال له نفر منهم : يا هذا ماندري ما تقول ؟
قال : الحمد للّه الذي زادني فيكم بصيرة ، أللّهم إنّي أبرأ إليكَ من فِعال القوم فناداهُ رَجلٌ من أصحابِه : أقبل يا برير إن أبا عبد اللّه يقول لكَ :
لا تُخاطب القوم ، فلعمري لَئنْ كان مؤمن آل فرعون نَصح قومَه ،
وأبلغ في الدُّعاء فلقد نصحتَ هؤلاء ، وأبلغَت لو نَفعَ النُّصح والإبلاغ .
فقال: اللّهم القِ بأسَهُم بينهم ، حتى يلقَوكَ وأنتَ عليهم غضبان ،
فَجَعلَ القوم يرمونه بالسهام ، فتقهقر إلى ورائه .
ثمّ أنَّ الحسينَ(ع ) ركب فرسه ، وأخذ مصحفاً ونشرهُ على رأسه ، ووقف بإزاءِ القوم ، وقال : ياقوم إنَّ بيني وبينَكُم كتاب اللّه وسنّة جدّي رسول اللّه(ص )