لقاء بين الخير والشرّ
بحار الأنوار 44/ 388 ـ 389:
ثم أرسل الحسين (عليه السلام) إلى عمر بن سعد بعد وصوله وعسكره إلى كربلاء من يقول له:
أنّي اريد أن اكلّمك فالقني اللّيلة بين عسكري وعسكرك، فخرج إليه ابن سعد في عشرين وخرج إليه الحسين (عليه السلام) في مثل ذلك فلمّا التقيا أمر الحسين (عليه السلام) أصحابه فتنحّوا عنه، وبقي معه أخوه العبّاس وابنه عليّ الأكبر وأمر عمر بن سعد أصحابه فتنحّوا عنه وبقي معه ابنه حفص وغلام له.
فقال له الحسين (عليه السلام): ويلك يابن سعد أما تتّقي الله الذي إليه معادك أتقاتلني وأنا ابن من علمت؟ ذر هؤلاء القوم وكن معي، فإنه أقرب لك إلى الله تعالى.
فقال عمر بن سعد: أخاف أن يهدم داري!
فقال الحسين (عليه السلام): أنا أبنيها لك.
فقال: أخاف أن تؤخذ ضيعتي،
فقال الحسين (عليه السلام): أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز.
فقال: لي عيال وأخاف عليهم.
ثم سكت ولم يجبه إلى شيء فانصرف عنه الحسين (عليه السلام) وهو يقول: مالك ذبحك الله على فراشك عاجلاً ولا غفر لك يوم حشرك، فوالله انّي لأرجو أن ﻻ تأكل من برّ العراق إلاّ يسيراً.
فقال ابن سعد: في الشعير كفاية عن البرّ، مستهزءاً بذلك القول.
على أعتاب الشهادة
إرشاد المفيد 230 ـ 231، واللّهوف 40 ـ 41:
نهض عمر بن سعد إلى الحسين (عليه السلام) عشية الخميس لتسع مضين من المحرّم ثم نادى: يا خيل الله اركبي، وبالجنّة أبشري، فركب الناس حتى زحف نحوهم بعد العصر والحسين (عليه السلام) جالس أمام بيته محتبياً بسيفه إذ خفق برأسه على ركبتيه، فسمعت اخته الضجّة فدنت من أخيها وقالت: يا أخي أما تسمع الأصوات قد اقتربت؟ فرفع الحسين (عليه السلام) رأسه فقال:
اني رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الساعة في المنام، وهو يقول لي: انّك تروح إلينا، فلطمت اخته وجهها، ونادت بالويل.
فقال لها الحسين (عليه السلام): ليس لك الويل يا اخيّة، اسكتي رحمك الله.
ثم قال له العباس بن علي: يا أخي أتاك القوم فنهض ثم قال: يا عباس اركب بنفسي أنت يا أخي حتى تلقاهم وتقول لهم: ما لكم؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم؟
فأتاهم العبّاس في نحو من عشرين فارساً فيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر، فقال لهم العبّاس: ما بدا لكم وما تريدون؟
قالوا: قد جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننا جزكم.
فقال: فلا تعجلوا حتى ارجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم.
فوقفوا وقالوا: القه فاعلمه ثم القنا بما يقول لك.
فانصرف العبّاس راجعاً يركض إلى الحسين (عليه السلام) يخبره الخبر، ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويعظونهم ويكفّونهم عن قتال الحسين (عليه السلام).
فجاء العبّاس إلى الحسين (عليه السلام) فأخبره بما قال القوم.
فقال (عليه السلام): ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشيّة لعلّنا نصلّ لربّنا اللّيلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي قد كنت احبّ الصلاة له، وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والإستغفار.
فمضى العبا إلى القوم، ورجع من عندهم ومعه رسول من قبل عمر بن سعد يقول: إنّا قد أجّلناكم إلى غد، فإن استسلمتم سرحناكم إلى أميرنا عبيد الله ابن زياد، وإن أبيتم فلسنا تاركيكم، وانصرف، فجمع الحسين (عليه السلام) أصحابه عند قرب المساء.
قال عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام): فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم وأنا اذ ذاك مريض، فسمعت أبى يقول لأصحابه: اُثني على الله أحسن الثناء وأحمده على السرّاء والضّراء اللّهمّ إنّي أحمدك على أن كرّمتنا بالنبوّة وعلّمتنا القرآن وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة فاجعلنا من الشاكرين.
أمّا بعد: فإنّي ﻻ أعلم أصحاباً أو فى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي خيراً، ألا وإنّي أظنّ يوماً لنا من هؤلاء، ألا وانّي قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّ ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً.
فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبد الله بن جعفر: لم نفعل ذلك لنبقى بعدك؟ ﻻ أرانا الله ذلك أبداًُ، بدأهم بهذا القول العباس بن علي (عليه السلام) وأتبعه الجماعة عليه فتكلّموا بمثله ونحوه.
فقال الحسين (عليه السلام): يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم.
قالوا: سبحان الله فما يقول الناس؟ يقولون إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا، ﻻ والله ما نفعل (ذلك) ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك.
وقام إليه مسلم بن عوسجة فقال: أنحن نخلّي عنك، وبما نعتذر إلى الله في أداء حقك؟ أما والله حتى أطعن في صدورهم برمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن معي سلاح اقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة والله ﻻ نخلّيك حتى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسوله فيك.
أما والله لو قد علمت أنّي اقتل ثم احييى ثم احرق ثم احييى ثم اذري يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقي حمامي دونك، فكيف ﻻ أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي ﻻ انقضاء لها أبداً.
وقام زهير بن القين رحمه الله فقال: والله لوددت أنّي قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى اقتل هكذا ألف مرّة، وأنّ الله عزّ وجلّ يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك.
وتكلّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً في وجه واحد فجزّاهم الحسين (عليه السلام) خيراً.
وقيل لمحمد بن بشير الحضرمي في تلك الحال: قد اسر ابنك بثغر الري.
فقال: عند الله احتسبه ونفسي ما كنت احبّ أن يؤسر وأنا أبقى بعده.
فسمع الحسين (عليه السلام) قوله، فقال: رحمك الله أنت في حلّ من بيعتي فاعمل في فكاك ابنك.
فقال: أكلتني السباع حيّاً إن فارقتك.
قال: فاعط ابنك هذه الأثواب البرود يستعين بها في فداء أخيه فأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار.
قال الرواي: وبات الحسين (عليه السلام) وأصحابه تلك اللّيلة ولهم دويّ كدويّ النحل، ما بين راكع وساجد، وقائم وقاعد، فعبر إليهم _ أي التحق بهم ـ في تلك اللّيلة من عسكر عمر بن سعد اثنان وثلاثون رجلاً.
الإمام ينعى نفسه
إرشاد المفيد 232:
قال علي بن الحسين (عليه السلام): اني جالس في تلك العشية التي قتل ابي في صبيحتها وعندي عمّتي زينب تمرّضني إذ اعتزل أبي في خباء له، وعنده جون مولى ابي ذر الغفاري وهو يعالج سيفه ويصلحه وابي يقول:
يا دهر افّ لك من خليل *** كم لك بالإشراق والأصيل
من صاحب أو طالب قتيل *** والدهر ﻻ يقنع بالبديل
وإنما الأمر إلى الجليل *** وكلّ حي سالك سبيلي
فأعادها مرّتين، أو ثلاثاً حتى فهمتها وعرفت ما أراد فخنقتني العبرة فرددتها ولزمت السكوت، وعلمت أنّ البلاء قد نزل، وأمّا عمّتي فلمّا سمعت ما سمعت وهي امرأة ومن شأن النساء الرقّة والجزع، فلم تملك نفسها أن وثبت تجرّ ثوبها وهي حاسرة حتى انتهت إليه، فقالت: واثكلاه ليت الموت أعد مني الحياة، اليوم ماتت أمي فاطمة، وأبي علي وأخي الحسن (عليه السلام)، يا خليفة الماضين وثمال الباقين، فنظر إليها الحسين (عليه السلام) فقال لها:
يا اخيّة ﻻ يذهبنّ حلمك الشيطان! وترقرقت عيناه بالدموع وقال: لو ترك القطا لنام.
فقالت: ياويلتاه أفتغتصب نفسك اغتصاباً؟ فذلك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي ثم لطمت وجهها، وهوت إلى جيبها فشقّته وخرّت مغشياً عليها.
فقام إليها الحسين (عليه السلام) فصبّ على وجهها الماء وقال لها: ايهاً يا اختاه اتّقى الله وتعزّي بعزاء الله، واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون، وأهل السماء ﻻ يبقون، وانّ كل شيء هالك إلاّ وجه الله الذي خلق الخلق بقدرته ويبعث الخلق ويعيدهم وهو فرد وحده، جدي خير مني وأبي خير مني وأمي خير مني وأخي خير مني ولي ولكلّ مسلم برسول الله (صلى الله عليه وآله) أسوة، فعزّاها بهذا ونحوه، وقال لها: يا أخيّة إنّي أقسمت عليك فأبرّي قسمي ﻻ تشقّي عليّ جيباً، ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تدّعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت، ثم جاء بها حتى أجلسها عندي.
ثم خرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقرب بعضهم بيوتهم من بعض وأن يدخلوا الأطناب بعضها في بعض، وأن يكونوا بين البيوت فيستقبلوا القوم من وجه واحد والبيوت من ورائهم، وعن ايمانهم، وعن شمائلهم قد حفّت بهم، إلاّ الوجه الذي يأتيهم منه عدوّهم، ورجع (عليه السلام) إلى مكانه فقام اللّيل كلّ يصلّي ويستغفر ويدعو ويتضرّع، وقام أصحابه كذلك يصلّون ويدعون ويستغفرون.
ولشهيد آل محمد روحي فداهم بقية رحم الله من ذكر القائم من آل محمد .
المفضلات