اعتبر بما صار لي ولك واتعظ بأخبار السابقين، فان المنايا قسمت على الأنفس ويوما سيأتي دورك ليصعد سرك الرباني إلى بارئك...دنا من فراشها مشدوها وكأن ذاك الكلام نبال أو سهام اتخذت من قلبه موضعا، صاح قائلا: "لا تقولي هذا يا أختاه...فمهما عبثت بنا الأقدار فلن تفرقنا وسنعيش كما كنا ونحن صغار... قاطعته قائلا: "صه...عد من حيث أتيت قبل أن يراك أحدهم في هاته الحجرة المملوءة بالأقذار...إني كالأبرص الساكن بين اللحود، الفار من البشر الذين استحالت قلوبهم كالجلمود فلا تقربني وفز بجلدك حتى لا يقولوا أنك قتلتني ، إن الذئاب تفترس الشاة في غيهب الدجى لكن آثار نجيعها تظل على حصباء الوادي حتى يجيء الفجر وتبزغ الشمس، وإن هي لدليل قاطع وحجة دامغة على الوحشية التي تحملها الذئاب في داخلها...هيهات أن تسنح لنا برهة من الزمن نحيا فيها معا...قال لها وهو في منتهي الشجن: "...لست كالأبرص وان سكنت بين اللحود ولست دنسة وان لامستك أيدي الدنسين ...لن يضيع حقك وان وطأت الذئاب أرضك...فأدران الأجساد النجسة لا تعلق بصفاء النفس النقية...إذا تكلم قاطعته: نعم ...حقا، أنا زهرة مسحوقة تحت الأقدام بعد أن مص رحيقها وضاع أريجها وريحها...لقد مرت بي أيام عسيرة لياليها مظلمة طويلة تتلقفني فيها أيادي الأقدار العابثة وتنظر إلي الأعين شامتة لما أحاق بي من ضرر وأخطار. "صمتت...رفعت عينيها المظلمتين المتظلمتين إلى السماء وقالت باستسلام "أيها الحق...أنت يا أيها الكامن وراء نفسي الحفية، السامع خفقات قلبي... المنصت إلى دعائي وابتهالاتي... أنصفني..."لكن قاطعتها المنية واختطفت براثنها روحها من جنباتها...امتقع لونها...ارتخت أوصالها وصمتت إلى الأبد...لم تجب أخاها وهو يناديها، فقد ولجت الدرب الذي لا عودة منه...أحس أخوها بالوحشة إلى جانب جثتها الهامدة ثم أنه ناح وبكى، وخرج من الكوخ وأقبل خلفه صوت المؤذن ينبسط عرضا ويمتد طولا، وامتلأ الجو من حوله ضياء يوقظ الأشياء وغناء يوقظ الأحياء، لكنه لم يسمع غناء ولم يؤنس ضياء...قد سدت أذناه وادلهمت في وجهه الدنيا ومضى صوب جعفر وقوة فاترة تدفعه إلى ذلك دفعا، لم يقاوم هذه القوة أو أنه لم يرد أن يقاومها وكأنما هي قد امتلكت كيانه وملأت نفسه فلم يستطع لها مقاومة...ومضى مترفقا كأنه الزمن في ترفقه، حتى أحس أنه يخطو في فراغ...ثم ما أحس شيئا وما أحسه شيء، وإنما دخل عليه شيء عجيب واستشعر بردا يكتنفه من جميع أقطاره، ثم مضى إلى الغيب كما تمضي في كل لحظة أشياء عدة إلى الغيب، وهو منه ليس بعائد كما تؤوب في كل لحظة أشياء عدة من الغيب.
http://www.nadiadab.edunet.tn/bibli...hr/sami2002.htm
المفضلات