هذا و إنّ سياق الآية يدلّ على أنّموقف الملائكة كان موقف المستفسر لا المعترض و لكن رُبَّ قائلٍ يقول أنّ الملائكةليست لهم إرادة مستقلّة و أنّ الله تعالى هو الذي ألهمهم أن يسألوه هذا السؤال وثمّ فعلوا ذلك. و لكن هذا الفرض خطأ بدليل قوله تعالى في الآية التالية (.. إِنْكُنْتُمْ صَادِقينَ) أي إن كُنتم مُحقّين في هذا السؤال. و هذا يدُلُّ على أنّسؤالهم لم يَكُن موزعًا من عند الله تعالى بل صادرٌ عن إرادتهم. و ثابتٌ أيضًا منالأحاديث أنّ للملائكة إرادة في بعض المسائل, فعن أبي سعيدٍ الخدري قال:"أَلاأُخبركم بما سمعته من فِيْ رسول الله صلىّ الله عليه وآله و سلّم؟ سمعته أذُناي ووعاهقلبي.. إنّ عبدًا قتل تسعة و تسعين نفسًا ثمّ عرضت له التوبة فسأل عن أعلم أهلالأرض فدُلَّ على رجلٍ فأتاه. فقال: إنّني قتلتُ تسعةً و تسعين نفسًا فهل لي منتوبة؟ قال: بعد تسعةٍ و تسعين نفسًا.. قال – أي رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلّم- فانتضى سيفه فقتله فأكمل به المائة.
ثمّ عرضت له التوبة فسأل عن أعلم أهلالأرض فدُلَّ على رجل فأتاه فقال: إنّني قتلتُ مئة نفسًا فهل لي من توبة؟ قال– أيرسول الله صلّى الله عليه وآله و سلّم- فقال (العالم ): ويحك و ما يحول بينك و بينالتوبة؟ أُخرج من القرية الخبيثة التي أنت فيها إلى القرية الصالحة كذا و كذا فاعبدربَّك فيها. فخرج يريد القرية الصالحة فعرض له أجله في الطريق فاختصمت فيه ملائكةالرحمة و ملائكة العذاب, قال إبليس: أنا أولى به لأنّه لم يعصني ساعةً قط. قال – أيرسول الله صلّى الله عليه وآله و سلّم- فقالت ملائكة الرحمة إنَّه خرج تائبًا." و فيرواية أُخرى عن حميد الطويل عن بكر بن عبد الله عن ابن رافع, قال :"فبعث الله عزّ وجلّ ملَكًا فاختصموا إليه ثُمّ رجعوا. فقال – أي رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلّم- أنظروا أي القريتين كانت أقرب فألحقوه بأهلها".
و يُستنتج من ذلك أنّ للملائكة قوّة إرادة. ثمّ أنّهيتّضح من الآية
مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإٍ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (70)
(ص : 70)
أنّ الملائكةيتجادلون فيما بينهم في بعض المسائل و هذا لا يكون إلّا إذا كانت لهم قوّة إرادة وإنْ كانت محدودة جدًا.
علم الغيب
يتّضح من القرآن المجيد أن ّالملائكة لا تعلم الغيبفقد جاء في سورة سبأ:
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (41)
قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (42)
(ألاية 41-42)
فلو كانللملائكة عِلمٌ بالغيب لما أظهروا جهلهم بعبادة طائفةٍ من النّاس لهم. هذا و لايُمكن أن يُقال أنَّ الله تبارك و تعالى وَجَّه إلى الملائكة هذا السؤال عبثًا أيدون أن يكون هناك من عبدوا الملائكة فعلًا, و إنّما وجّههُ عن حكمة و هو عزّ و جلّمُنزّهٌ عن ذِكر شيءٍ غير حقيقيّ. ثم أنه يظهر من بعض الكتب السابقة أنّ بعض الناسكانوا يعبدون الملائكة فعلًا.
و من هذا نعلم أنّ بعض الملائكة الذين كانوايُعبدون يُنكرون ذلك يوم الحساب لجهلهم بتلك العبادة. هذا و قد ورد في الأحاديثالنبويّة ما يدلّ على أنّ الملائكة لا يعلمون الغيب, فقد رُوي عن رسول الله صلىالله عليه وآله وسلم أنّ رجلًا يُسمّى بأسماء المؤمنين و يفعل أفعال المؤمنين و لكنعندما يعرض الملائكة الكاتبون أعماله على الله تبارك وتعالى يأتي صوتٌ من السماءبأن يُرجعوه و يُعيدوا عملهُ إلى وجهه إذ أنّ صلاته لم تكُن لوجه الله سُبحانه وتعالى. و يتّضح من هذا أنّ الملائكة لم يُعطوا العِلم الحقيقيّ إذ لو كان عِندهمهذا العِلم لما رفعوا مِثل هذه الصلاة إلى الله تبارك و تعالى, و هي صلاةٌ ليستلوجهه و لا تستحقّ أن تُعرض عليه.
كلّ ملكٍ مُختصٌ بعملٍ مُعيّن
و الحقيقة الثالثة عشر هي أنّ لكُلّ شيءٍ ملَكًاخاصًّا موكلٌ به, و يتّضح من ذلك مِمّا رُوِيَ عن عائشة رضي الله عنها بأنّها قالتللنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : "هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ من أُحُد؟" قال صلى اللهعليه وآله وسلم :"لَقِيتُ مِن قومكِ ما لقيتُ و كان أشدّ ما لقيتُ مِنهُم يوم العَقبة إذعرَضْتُ نفسي على ابن عبد كُلال فلم يُجِبْني إلى ما أردتُ فانطلقت و أنا مهمومٌعلى وجهي فلم أستفق إلّا و أنا بقَرْنِ الثعالب فرفعتُ رأسي فإذا أنا بسحابة قدأظلّتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال إنّ الله قد سمع قول قومكو ما رَدُّوا عليك و قد بعث إليك مَلَك الجبال لتأمر بما شِئت فيهم. فناداني ملَكالجبال فسلّم عليّ ثُمّ قال: يا محمّد ثم ّقال ذلك, فيما شِئت؟ إن شِئت أُطْبِقُعليهم الأخشبين. فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : بل أرجو أن يخرج من أصلابهم منيعبد الله وحده و لا يُشرك به شيئًا".
و ظاهرٌ من هذا الحديث أنّ ملَك الجبال مُوكّل بعملٍمُعيّن و إلّا لَعَرضَ جبريل نفسه على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليتولّى تنفيذ مايريده صلى الله عليه وآله وسلم. و نلخص من ذلك إلى أنّ كلّ شيء مستقل على حِدى و لهملَكٌ موكل به.
إختلاف الملائكة باختلاف المظاهر والصفات
ذكرنا فيما سبق أنّ الملائكة تظهِر مختلف الصفاتالإلهيّة فمن الملائكة من يكونون مظهرًا لطاقة واحدة والآخرين لأكثر من طاقة حيثقيل:
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
(الآية - 1)
و يؤُخذ من هذهالآية أنّ الملائكة غير متساويين من حيث القوى و القدرات و إِنّما زُوِّدواباستعداد المناسب من حيث نوع العمل الموكلين به و حسب حاجة الوقت, و أنَّهم يُرسلونللنّاس تِبعًا لظروفهم و استعدادهم. و عندما بلغت الدنيا أعلى درجاتها في زمنالرسّول صلى الله عليه وسلم أُرسل جيربل في صورته الكاملة التي جاء وصفها في الحديثبأنّ له ستمائة جناح (راجع أحاديث الإسراء و المعراج) و هو ما يُشير إلى أنّ جبريلعليه السلام مظهرٌ لستمائة صفة من صفات ربّ العالمين.
هذا و من الخطأ أننقول أن ّصفات الله تعالى أقلّ من ستمائة و من ثُمّ كيف يصحّ أن يكون جبريل عليهالسلام مظهرًا لعدد أكثر من الصفات. و الردّ على مثل هذا التصوّر الخطأ هو أنّ صفاتالله تعالى هي في الحقيقة لا تُحصى و لا تُعدّ و لكن منها ستمائة فقط هي التيللإنسان علاقة بها أو هي التي لها تأثير على الإنسان و لذا جاء جبريل عليه السلامبمظهر هذه الصفات. و نشير بهذه المناسبة إلى أنّ للمسيح الموعود عليه السلام في هذهالمسألة قولًا بالغ الدّقة و هو أنّ علم القرآن الكريم قد أُعطيَ لرسول الله صلىالله عليه وسلم بِقدْرٍ أكثر مِمّا أُعطيَ لجبريل عليه السلام نفسه. و هذا حقّ لأنّجبريل عليه السلام لم يكُن بمفرده بل كان هناك ملائكة آخرون في تأييد الرسول صلىالله عليه وسلم و لهم صفات أو أجنحة أُخرى كما ذكرنا آنفًا.
اختكم ,,, نور علي
المفضلات