مناظرات الإمام الكاظم " عليه السلام "مع بعض خصومه :
1- مع هارون الرشيد :
دخل إليه وقد عمد على القبض عليه لأشياء كُذبت عليه عنده فأعطاه طوماراً طويلاً فيه مذاهب وشنعة نسبها إلى شيعته فقرأه " عليه السلام "ثم قال له :
يا أمير المؤمنين نحن أهل بيتٍ منينا بالتقول علينا وربنا غفورٌ ستور ، أبى أن يكشف أسرار عباده إلا في وقت محاسبته :{ يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } ( 21 ) ثم قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن علي ، عن النبي " صلوات الله عليهم " :
الرحم إذا مست اضطربت ثم سكنت ، فإن رأى أمير المؤمنين أن تمس رحمي رحمه ويصافحني فعل . فتحول عند ذلك عن سريره ومد يمينه إلى موسى " عليه السلام " فأخذ بيمينه ثم ضمه إلى صدره فاعتنقه وأقعده عن يمينه وقال : أشهد أنك صادق وجدك صادق ورسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " صادق ولقد دخلت وأنا أشد الناس حنقاً ( 22 ) وغيظاً لما رقي إليّ فيك فلما تكلمت بما تكلمت وصافحتني سرّي عني وتحول غضبي عليك رضى وسكت ساعة ثم قال له :
أريد أن أسألك عن العباس وعلي أولى بميراث رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " من العباس ، والعباس عم رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " وصنو أبيه ؟
فقال له الإمام " عليه السلام " : أعفني ، قال : والله لا أعفيتك فأجبني .
قال : فإن لم تعفني فآمني ، قال : آمنتك ، فقال الإمام موسى بن جعفر" عليه السلام " : إن النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " لم يورث من قدر على الهجرة فلم يهاجر ، إن أباك العباس آمن ولم يهاجر ، وإن علياً آمن وهاجر ، وقال الله " عز وجل " { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } ( 23 ) فتغير لون هارون ، ثم تابع الرشيد فقال : ما لكم تُنسبون إلى علي وهو أبوكم وتنسبون إلى رسول الله وهو جدكم ؟ فقال الكاظم " عليه السلام " : إن الله " عز وجل " نسب المسيح " عليه السلام " إلى خليله إبراهيم " عليه السلام " بأمه مريم البكر البتول التي لم يمسها بشر في قوله تعالى : { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ } ( 24 ) فنسبها لأمه وحدها إلى خليله إبراهيم" عليه السلام " كما نسب داود وسليمان وأيوب وهارون " عليهم السلام " بآبائهم وأمهاتهم فضيلةً لعيسى" عليه السلام " ومنزلةً رفيعةً بأمه وحدها ، وذلك قوله في قصة مريم " عليها السلام " : { إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ }( 25 ) بالمسيح من غير بشر ، وكذلك اصطفى ربنا فاطمة الزهراء" عليها السلام "وطهرها وفضلها على نساء العالمين بالحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة ، فقال له هارون – وقد اضطرب وساءه ما سمع - :-
من أين قلتم الإنسان يدخل الفساد من قبل النساء ومن قبل الآباء لحال الخمس الذي لم يدفع إلى أهله ، فقال الإمام الكاظم " عليه السلام " : هذه مسألةٌ ما سئل عنها أحدٌ من السلاطين غيرك ، ولا تيمٌ ولا عُديٌ ولا بنو أمية ولا سُئِلَ عنها أحدٌ من آبائي فلا تكشفني عنها ، فقال الرشيد : فإن بلغني عنك كشف هذا رجعت عما آمنتك فقال الإمام " عليه السلام " : لك ذلك . قال " عليه السلام " : فإن الزندقة قد كثرتُ في الإسلام وهؤلاء الزنادقة الذين يرفعون إلينا في الأخبار هم المنسوبون إليكم .
فقال هارون : فما الزنديق عندكم أهل البيت ؟ فقال " عليه السلام " : الزنديق هو الراد على الله وعلى رسوله وهم الذين يحادّون الله ورسوله ، قال تعالى : { لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } ( 26 ) وهم الملحدون ، عدلوا عن التوحيد إلى الإلحاد .
قال هارون : أخبرني عن أول من ألحد وتزندق ؟ فقال " عليه السلام " : أول من ألحد وتزندق في السماء إبليس اللعين ، فاستكبر وافتخر على صفي الله ونجيبه آدم " عليه السلام " فقال اللعين : { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } ( 27 ) فعتا عن أمر ربه وألحد فتوارث الإلحاد ذريته إلى أن تقوم الساعة فقال هارون : ولإبليس ذرية ؟فقال " عليه السلام " : نعم ألم تسمع إلى قول الله " عز وجل " { إِلاَ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً * مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً } ( 28 ) .
2- مع أبي حنيفة :
دخل أبو حنيفة على الإمام الصادق " عليه السلام " فقال له : " رأيت ابنك موسى يصلي والناس يمرون بين يديه ، فلم ينههم عن ذلك ! " فأمر أبو عبد الله " عليه السلام " بإحضار ولده فلما مَثُلَ بين يديه قال له : " يا بني ، إن أبا حنيفة يذكر إنك كُنت تصلي والناس يمرون بين يديك ؟ " ، فقال " عليه السلام "
: " نعم ، يا أبتِ وإن الذي كنت أصلي له أقرب إليَّ منهم ، يقول " عز وجل " { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } ( 29 )عندها فرح الإمام الصادق " عليه السلام " وسرّ سروراً بالغاً لما أدلى به ولده الإمام الكاظم " عليه السلام " من المنطق الرائع ، فقام إليه وضمه إلى صدره وقال مبتهجاً : " بأبي أنت وأمي يا مودع الأسرار " ( 30 ) .

3- مع راهبٍ نصراني :
كان في الشام راهبٌ معروف تقدسه النصارى وتعظمه وتسمع منه ، وكان يخرج لهم في كل يوماً يعظهم ، التقى به الإمام " عليه السلام " في ذلك اليوم الذي يعظ به وقد طافت به الرهبان وعلية القوم ، فلما استقر المجلس بالإمام ألتفت إليه الراهب قائلاً : " يا هذا ، أنت غريب ؟ " فقال الإمام" عليه السلام " : نعم ، فقال له : منَّا أو علينا ؟ فقال الإمام " عليه السلام " : لستُ منكم ، فقال له : أنت من الأمة المرحومة ؟ فقال الإمام " عليه السلام " : نعم ، فقال أمن علمائها أم من جهالها ؟ فقال الإمام " عليه السلام " : لست من جهالها ، فاضطرب الراهب وتقدم إلى الإمام يسأله عن أعقد المسائل عنده قائلاً : كيف طوبى أصلها في دار عيسى عندنا ، وعندكم في دار محمد " صلى الله عليه وآله وسلم " وأغصانها في كل دار ؟ فقال " عليه السلام " : إنها كالشمس يصلُ ضوءها إلى كل مكان وموضع وهي في السماء ، فقال الراهب : إن الجنة كيف لا ينفذ طعامها وإن أكلوا منه ، وكيف لا ينقص شيءٌ منه ؟ فقال الإمام " عليه السلام " إنه كالسراج في الدنيا ولا ينقص منه شيء ، فقال الراهب : إن في الجنة ظلاً ممدوداً ، ما هو ؟ فقال الإمام " عليه السلام " : الوقت الذي قبل طلوع الشمس هو الظل الممدود ثم تلى قوله تبارك وتعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً } ( 31 ) فقال الراهب : إن أهل الجنة يأكلون ويشربون كيف لا يكون لهم غائطٌ ولا بول ؟ فقال الإمام " عليه السلام " إنهم كالجنين في بطنه أمه ، فقال الراهب : إن لأهل الجنة خدماً يأتونهم بما أرادوا بلا أمر ؟ فقال الإمام " عليه السلام " : إن الإنسان إذا أحتاج إلى شيء عرفت أعضاؤه ذلك فتعرفه الخدم فيحققون مراده من غير أمر فقال الراهب : مفاتيح الجنة من ذهبٍ أو فضة ؟ فقال الإمام " عليه السلام " : مفاتيح الجنة قول العبد : لا إله إلا الله فقال الراهب : صدقت . ثم أسلم هو وقومه ( 32 ) .
3- مع أبي أحمد الخراساني :
سئل أبو أحمد الخراساني الإمام الكاظم " عليه السلام " : الكفر أقدم أم الشرك ؟ فقال " عليه السلام " : ما لك ولهذا ، ما عهدي بك تكلّم الناس ؟ فقال : أمرني هشام بن الحكم أن أسألك ، فقال " عليه السلام " : قل له الكفر أقدم ، أول من كفر إبليس { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } ( 33 ) ولا يخفى أن الكفر شيءٌ واحد ، والشرك يثبت واحداً ويشرك معه غيره ( 34 ) .
4- مع عبد الغفار :
جاء رجلٌ يقال له عبد الغفار فسأله عن قوله تعالى : { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى }( 35 ) فقال: أرى هنا خروجاً من حجب وتدلياً إلى الأرض وأرى محمد رأى ربه بقلبه ونسب إلى بصره فكيف هذا ؟ فقال الإمام
" عليه السلام " : دنا فتدلى فإنه لم يزل عن موضع ولم يتدلّ ببدن فقال عبد الغفار : أصفه بما وصف به نفسه حيث قال { دَنَا فَتَدَلَّى } فلم يتدلى عن مجلسه إلا وقد زال عنه ولولا ذلك لم يصف بذلك نفسه ، فقال الإمام " عليه السلام " : إن هذه لغة قريش إذا أراد رجل منهم أن يقول قد سمعت يقول : قد تدليت وإنما التدلي هو الفهم .
زمن وفاته :
المشهور عند المؤرخين أن وفاة الإمام الكاظم" عليه السلام " كانت سنة 173 هـ لخمسٍ بقين من شهر رجب ( 36) وقد كانت وفاته في يوم الجمعة وعمره الشريف 54 سنة أو 55 سنة ( 37 ) وكان مقامه منها مع أبيه عشرين سنةً وبعد أبيه خمسٌ وثلاثون سنة .
مصدر البحث :
باب الحوائج الإمام موسى الكاظم " عليه السلام