الج ـزء (5)
" حاولت الاتصال بك في هذا الصباح .. لكن لا من مجيب !! "
هكذا بدأ عصام حديثه معي قاطعا الصمت المسيطر على السيارة و علينا ..أطرقت رأسي و أنا أعتذر له .. كوني كنت نائمة و جد مرهقة ..
" أها .. هكذا إذن .. أنا الآخر كنت أشعر بالتعب و الإرهاق الشديدين ... "عقب عصام مبتسما .. ثم أخذ يعبث بأصابعه في موجة المذياع ليثبته على نشرة الأخبار ..
و قد كان المذيع حينها يعلن عن خبر عاجل يفيد بعدد القتلى في حادثة انفجار جديدة في العراق المنتهك الحقوق !
و لمحت شيئا من علامات الاستياء الشديد ترتسم على وجه عصام و هو يستمع إلى مثل هذا الخبر المؤلم ..تمتم عصام بعد حين من الخبر ساخطا ً
"لابد من ردة فعل عربية قوية .. و إلا فإننا سنخسر العراق إلى الأبد .. كما خسرنا القدس من قبل !! "
سألني عصام مريدا ً اشراكي في شيء من الحديث عن توقعاتي المستقبلة بما يختص بحادث الانفجار المريع هذا ..عبست ملامحي ..فانا لست محللة سياسية لأتوقع ما أتوقعه بشأن العراق .. إلا أني أخبرته فطريا و بشيء من الاقتضاب .. أن الوضع سيتأزم أكثر و أكثر و أن العرب كعادتهم سيكتفون بموقف المتفرجين كالعادة ! و ارتقبت ارتسام شيء ما على وجه عصام يشجعني على الاسترسال أكثر في الحديث ..لكن .. ظل وجه عصام جامدا .. و قد انعقد حاجبيه أكثر و أكثر .. لذا آثرت الصمت .. بل أني قد صمت بالفعل ..!!
و سرحت أنا الأخرى عبر نافذة السيارة .. أرقب عبرها معالم الطريق و هي تمضي أمامنا بسرعة ،، و لما تنبه عصام أخيرا ً من شروده .. نطق قائلا ..
" عذرا مرام .. فقد سرحت بفكري قليلا ..
فأنا أوفقك الرأي تماما .. لكن فلنأمل خيرا.. فلربما يتغير الوضع جذريا هذه المرة !"
" إن شاء الله ..فالرب الكريم هو وحدة القادر على ردع أمثال هؤلاء الجبابرة "كنا في هذه اللحظة قد وصلنا إلى ( كافتيريا ) صغيرة .. توقف عصام عندها .. سائلا إياي إن كنت أرغب في شرب أو أكل أي شيء .. فهو يشعر بشيء من العطش ..أخبرته بعد شيء من التردد أني أرغب في تناول عصير فراولة .. إذا أمكن ..اختفى عصام بعدها .. و قد نزل إلى ( الكافتيريا ) تاركا ً إياي وحدي في السيارة ..أغلقت عيني و أنا أستمع إلى موجز نهاية الأخبار..
" فلكم هو واقعنا بالفعل مؤلم و شنيع .. و لكم هي كثيرة مآسيه.. و لكم هي الحروب مدمرة ..
فيا ربي رحمتك .. ""
لقيت روحي .. بعد ما أنا لقيتك .. بعد اللقاء أرجوك .. لا .. لا تغيب ..صعب علي أبقى .. و أنا ما نسيتك ! "
هكذا ارتفع صوت أحدهم من المذياع بعد نشرة الأخبار ,, و هكذا اندمجت أنا كليا ً في ألحان هذه الأغنية .. و لم أنتبه إلا و يد عصام تطفئ المذياع عني بعصبية واضحة .. ثم رمقني عصام بنظرة مخيفة غريبة .. و هو يقول ..
" لا أغاني ..أسمعتي ؟! .. لا أغاني ... "
و بصراحة شديدة .. أربكني موقفه هذا .. فغصت في مقعدي .. و تجمدت في مكاني ..
فأنا أدرك تماما أن الأغاني حرام شرعا .. و لو كنت في سيارتي لأطفأتها فورا .. إلا أني لم أملك الجرأة لأن أعبث في مذياع سيارتك يا هذا .. لأغير الموجة إلى أخرى .. !
" آسف .. فلم أقصد بالفعل زجرك يا مرام بمثل هذه النبرة .. "
هكذا عقب بعد حين .. معتذرا و هو ينطلق بسيارته باتجاه المستوصف .. و قد تنبه إلى أسلوبه الفض و نبرته الحادة معي .. في ثاني أيام الخطوبة .. فما بال الأيام القادمة ..
" الله يستر منك يا عصام و من فعايلك .. إي بيّن على حقيقتك ! "ثم ناولني عصام مبتسما.. كأس العصير .. في محاولة منه لتلطيف الجو .. إلا أن ابتسامته ما كانت لتشفع له نبرته الحادة تلك ..!!
" لم أجد عصير فراولة .. لذا أحضرت لك عصير مانجو .. "أخذت العصير من عنده .. و قد ارتسم العبوس بنفسه على وجهي ..
" ياااخ .. فأنا لا أحب المانجو .. أو لم تجد عصيرا آخر غير المانجو ؟!! "
لم أتكلم بالطبع .. فالموقف ما زال متوترا ً .. و تعقيب كهذا كان من شأنه أن يشعل التوتر أكثر و أكثر .. لذا صمت مجبرة .. و أجبرت نفسي على رشف و لو بضع جرعات قليلة من عصير المانجو الذي لا أطيقه ..و الحمد لله فقد وصلنا أخيرا ً إلى المستوصف ..فتركت الكأس في السيارة .. و نزلت أتبع عصام و الذي تقدمني بخطوات واسعة سريعة .. تاركا ً مسافة جد شاسعة بيني و بينه ..
" يا لهؤلاء الرجال ... أو لا يدركون أن الجنس الناعم في العادة بطيء الحركة و المشي .. و خصوصا ً إذا كن يرتدين كعبا عاليا ً كما أفعل أنا الآن .. "
أسرعت قدر الامكان في محاولة للحاق بعصام .. و كان عصام قد تنبه أيضا إلى مقدار المسافة الكبيرة التي خلفها بيني و بينه.. لذا وقف ينتظر وصولي ..في داخل غرفة الطوارئ.. تقدم الممرض المتواجد هناك لمداواة الحرق في إصبعي .. و الذي كان قد تورم بشكل يلفت الانتباه .. إلا أن عصام اعترض طريقه قائلا ..
" عذرا .. و لكنها تفضل الممرضة لو سمحت .."
" لكن الممرضة مشغولة حاليا ً بمداواة مريضا آخر .."
" سننتظرها ريث تنتهي .. فلسنا في عجلة من أمرنا .. !! "
"عصام .. دعه يعالجني ..فالنهار قد انتصف و لابد أن أرجع البيت لأضبط من شكلي قبل الذهاب معك إلى بيت أهلك ..ثم أنه لا فرق بين تمريض الرجل و المرأة .. فهذه حالة طوارئ .. يُـباح فيها المحظور .. "
و يا ليتني لم أتفوه بما تفوهته للتو... فقد حدجني عصام بنظرة أرعبتني كليا .. و هو يقول ..
" مرام .. الممرض رجل ٌ أجنبي ..فكيف تسمحين لرجل أجنبي بلمسك .. و هناك ممرضة موجودة ..؟؟دقائق قليلة من الانتظار .. أهون بكثير من سخط ربك .. أليس كذلك ؟!! "
"بلى .. بالطبع ،، ! " ثم أطرقت رأسي و قد أحرجني موقفه أكثر و أكثر ..لكني في النهاية .. لا أخفي عليكم ..أني.. أني قد أ ُعجبت كثيرا بطريقة و لهجة عصام و هو يقنعني بوجهة نظره .. و غيرته علي .. "
" ايوووه يا عم .. بئى ورايي رجّـــالة .. !! بتخاف.. و بتغار عليّ !! "
.. يتبع ..
المفضلات