التسبيحات الأربع
قبل أن ندخل في بيان الذكر في الركوع والسجود، نوضح الجمل التي يرددها المصلي في الركعتين الثالثة والرابعة قائماً، هذه الجمل هي أربعة أذكار تنطق بأربعة حقائق عن الله تعالى: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
لمعرفة هذه الخصوصيات الأربع تأثير عميق في تكون فهم صحيح وكامل عن التوحيد؛ إذ إنّ كل واحد من هذه الأذكار يعدّ مثالاً لعقيدة التوحيد.
تكرار هذه الجمل ليس من اجل زيادة المعلومات الذهنية للإنسان واطلاعه فقط، بل إن أعظم فوائد العلم بصفات الله وخصوصياته وتكرار ذكرها هو أنّها تبعث في الإنسان الحركة والمسؤولية، وتجعله مكلّفاً تجاه تلك الحقيقة التي أدركها.
بشكل عام يجب أن تكون العقائد الإسلامية خارج الذهن وفي مسرح الحياة منشأً للعمل والحركة، إذ إنّ هذه العقائد لا تستمد أهميتها واعتبارها من جنبتها الذهنية والتجريدية، بل إنّ أغلب ذلك مستمد من جهة كونها ناظرة إلى حياة الإنسان وسلوك الفرد والمجتمع؛ صحيح أن كل عقيدة إسلامية معناها معرفة حقيقة معيّنة، ولكن إنّما يجب الاعتقاد بها فيما إذا استلزمت تعهداً من الإنسان، ووضعت على عاتقه تكليفاً جديداً.
العقيدة بوجود الله من هذا القبيل، فإنّ كلاً من الاعتقاد بوجود الله وعدم وجوده يشكل نمطاً وشكلاً خاصاً في الحياة والعمل؛ إنّ الفرد والمجتمع الذي يعتقد حقّاً بوجود الله يحيا نمطاً وشكلاً خاصاً في الحياة، وأمّا الفرد والمجتمع المنكر لهذه الحقيقة فإنه يعيش نمطاً وشكلاً آخر.
إن اعتقد الإنسان أنّه والعالم مخلوق من قبل قدرة الله وعن إرادة شاعرة وحكيمة، فسيؤدي به هذا الاعتقاد إلى اعتقاد آخر وهو أنّ هذا الخلق كان لهدف ولغاية، ويوقن بأنّ له أثراً ومسؤولية لبلوغ هذه الغاية، وهذا الاحساس بالمسؤولية هو الذي يدعوه إلى العمل والجد وتحمل ثقل المسؤولية، ويشعر تجاه ذلك كلّه بالرّضا ويتقبله عن طيب نفس.
وهكذا الاعتقاد بالمعاد والنبوة والإمامة و… كلّها تلقي مسؤوليات وتكاليف على عاتق المعتقد، وتشخص له بأجمعها منهج سيره وحياته.
وإن شوهد في الواقع الخارجي من يرون أنفسهم معتقدين بهذه الأصول الفكرية، متساوين مع أولئك الذين ليس لديهم أدنى اطلاع عليها، ولا يعتقدون بها، فما هذا إلاّ بسبب عدم الاطلاع الكامل أو لعدم تجذّر إيمانهم وتسليمهم.
في المواطن الحساسة وفي منعطفات الحياة يمتاز صفّ المعتقدين الواقعيين عن المقلدين الجاهلين والمنتهزين للفرص. وبهذه الرؤية نرجع إلى مفاد الأذكار الأربعة ومحتواها.
سبحان الله
إنّ الله منزّه عن أن يكون له شريك، ومنزّه عن الظلم، وعن أن يكون مخلوقاً، وعن أن يفعل ما هو مناف للحكمة والمصلحة، وعن جميع النواقص والاحتياجات والعيوب الموجودة في الكائنات، وعن جميع الصفات المستلزمة لكونه مخلوقاً أو ممكناً.
بالتلفظ بهذه الجملة وذكر هذه الخصوصية لله يفهم المصلي ويستذكر أنّه أمام أيّ عظيم، ولأيّ ذات حَرِيّة بالتمجيد قام بالخضوع والتعظيم؛ إنه يشعر أنّ تعظيمه وتواضعه أمام الاحسان والكمال المطلق.. هل يشعر أحد بالحقارة عندما يحترم الطهارة والاحسان والجمال المطلق؟! إنّ صلاة الإسلام هي التواضع والتعظيم لهذا المحيط المتلاطم للاحسان والكمال والجمال؛ إنّها ليست خضوعاً يذلّ الإنسان ويقلل من شأنه وكرامته وعزّته الإنسانية، وليست مدحاً يذلّ الإنسان ويحقره. أليس الإنسان كائناً مدركاً للجمال باحثاً عنه؟ إذن، فمن الطبيعي جداً أن يسجد للكمال المطلق، وأن يعبد الذات الواجدة له ويمجّدها بتمام وجوده؛ هذا التمجيد وهذه العبودية تجذبه نحو طريق الكمال والاحسان والجمال وتجعل حركة حياته في هذا الاتجاه وهذا المسار.
إنّ الذين يرون العبادة الإسلامية محققة لإذلال الإنسان، وقاسوها بالتقديس للقدرات المادية، قد أغفلوا نكتة دقيقة وهي: إنّ الثناء على الاحسان والطهارة هو بحدّ ذاته أكبر دافع ومحفز نحو الاحسان والطهارة؛ هذه النقطة هي التي نستذكرها عندما نتلفظ "سبحان الله".
الحمد لله
إنّ الإنسان في طول حياته المملّة كان دوماً، ولأجل الحصول على الفوائد المتنوعة والامتيازات الصغيرة والكبيرة ولأجل البقاء بضعة أيام أخرى على قيد الحياة، وحتى في كثير من الأحيان من أجل الخبز، يلهج فمه بالثناء والشكر على الذين يساوونه في الخلقة وليس لديهم ما يسمو بهم عليه، ويضحي بنفسه وماله من أجل أسياده، لأنّه كان يراهم مصدر النعمة، فيستجيب ويرضخ لعبودية سيّده، عبودية الجسد للروح والفكر!
إنّ استذكار كون جميع المحامد لله يفهم أن جميع النعم لله، فإذن في الحقيقة لا أحد يملك شيئاً ليمكنه عن هذا الطريق ويحق له أن يسترقّ أحداً ويجعله مطيعاً وأسيراً له، ويعلّم الأرواح الضعيفة والقلوب المفتونة والعيون المنخدعة بالنعم أيضاً أن لا تحسب رحمة وعطاء الأرباب والأسياد الضئيل شيئاً، ولا تعدّه منهم، ولا تسلم قيادها، أو تتحمل الحرمان من أجله، ولتعلم أنّ مالكه محتكر له وغاصب ومعتد.
لا إله إلا الله
هذا هو شعار الإسلام الذي يظهر الرؤية الكونية والآيديولوجية لهذه العقيدة. وفي هذا الشعار نفي وإثبات.
ففي البداية ينفي كلّ القدرات الطاغوتية وغير الإلهية، ويخلّص نفسه من ربقة العبودية لكلّ القوى الشيطانية، ويقطع كلّ يد أو رجل تجرّه بكلّ شكل من الأشكال نحو طريق ما، ويرفض كل قدرة غير قدرة الله، وكل نظام إلاّ النظام الإلهي، وكلّ البواعث إلاّ البواعث التي يرتضيها الله. وبهذا النفي العظيم يتحرر من كلّ ذلّ وانكسار وقيد وأسر وعبودية.
عندها يحكّم أمر الله وإرادته التي تتحقق فقط في ظل نظام ربّانيّ ـ يعني أمة إسلامية بالمعنى الحقيقي للكلمة ـ على وجوده، ويتقبل عبودية الله التي ترفض كل العبوديات الأخرى.
عبادة الله تعني صياغة الحياة طبقاً لأوامر الله الحكيمة، والعيش في ظل نظام ربّاني رسمت خطوطه العريضة وفقاً لأوامر الله، والتحرك بجميع القوى والجهود الممكنة لإيجاد هذا النظام وهذه السعادة.
وأمّا النظم الأخرى التي بنيت على أساس من التفكير البشري، بسبب من الجهل وعدم الاطلاع والانحراف الفكري وأحياناً لعدم خلوّها من المطامع، فإنّها ليست قادرة على إسعاد البشر وإيصاله إلى الكمال الإنساني المطلوب.
والمجتمع والنظام الإلهي فقط هو الذي يمكنه ـ لكونه نابعاً من حكمة الله ورحمته، منطلقاً من الإحاطة بما يحتاجه الإنسان، قادراً على تلبية هذه الاحتياجات ـ أن يكون محيطاً مناسباً لنمو هذا البرعم الذي يسمّى بالإنسان.
نحن لسنا أعداءً للنظم الأخرى، بل نحن نشفق عليها؛ هذا كلام الأنبياء وهم آباء البشر المشفقين عليهم؛ إنّهم يعلمون بنّائي ومهندسي البيوت التي يجب أن تسكن فيها الإنسانية ـ أي من يشيّدون النظم والمجتمعات ـ أنّ البشر لا ولن يمكنه أن يسعد إلاّ في ظل نظام رباني وتوحيدي. لقد اثبت التاريخ وشاهدنا وسنرى ما الذي يتجرعه الإنسان في ظلّ النظم غير الربانيّة، وكيف مسخت الإنسانية، وبأيّ يوم عصيب قد ابتليت!
الله أكبر
وبعد هذا النفي كلّه يشعر الإنسان العادي، الذي مازال متمسكاً بالحقائق الجاهلية، بالغربة والوحدة؛ فهو من جهة يرى عياناً انهيار الأسس التي كانت تبدو حتى وقت قريب راسخة، ومن جهة أخرى توحي له الجاهلية بأنّها مازالت ثابتة كالجبل؛ نفس الأشياء التي نفاها تعرض له وجودها فتقضّ مضجعه، في نفس اللحظة التي يقول "الله أكبر" من كلّ شيء، من كلّ شخص، من كلّ القدرات والمقتدرين، ومن أن يوصف، هو مهندس السنن والقوانين الكونية للعالم سواء في مجال الطبيعة أم في التاريخ. إذن لا يتيسر النصر النهائي المتوقف على التعاطف مع هذه القوانين والسنن إلاّ بالتمسك بأوامره، فإطاعته وعبادته هي الجبهة الوحيدة المنتصرة في خضم تاريخ البشرية.
وكان محمد (ص) يدرك هذه الحقيقة جيداً ويؤمن بها من أعماقه ويلمسها، ولذا ثبت بمفرده بوجه جميع الضالين في مكّة، بل بوجه كل العالم، وقاوم بإصرار، كما يتوقع من إنسان بارز في حدود قدرته أن يقاوم، من أجل تخليص قافلة البشر الضالة من التبعية الذليلة للقدرات الطاغوتية وتوجيهها نحو المسار الفطري، ألا وهو مسار التكامل.
إنّ من يجد نفسه ضعيفاً مسلوب الإرادة أمام القدرات البشرية إذا أدرك أنّ أعلى القدرات وأكبرها هو الله تعالى فسوف يطمئن قلبه ويهدأ، وتتوهج في باطنه قوّة فريدة تجعل منه الأفضل والأقوى.
هذه كانت خلاصة محتوى ومفاد الجمل الأربع التي تتكرر في الركعتين الثالثة والرابعة حال القيام.
يتبع ,,,





رد مع اقتباس
المفضلات