شهيدة الشهيد




الحلقة الرابعة





وراحت تفكّر في شتى الأساليب التي يلجأ إليها القانطون من الحياة , والتي سمعت الناس يتحدّثون عنها , فما كانت ترى غير أقربها إليها وهو السقوط من علوّ شاهق . وهاهي الصخرة التي من تحتها . ألعلّها من العلوّ بحيث لا ينجو الساقط عنها من الموت ؟ أجل . أنها لكذلك . وكيف يجمل بها أن تسقط . أترمي بنفسها ورأسها إلى فوق أم إلى أسفل ؟ بل الأفضل أن يكون إلى أسفل ...ذلك أكفل للموت السريع .


وأغمضت الفتاة عينيها فتخيّلت نفسها تهوي من حالق فيكاد قلبها يتوقّف عن النبض . ثمّ أحسّت رأسها يرتطم ارتطامة فظيعة بصخرة في أسفل الوادي . فتتشعّث جمجمتها ويتطاير منها المخّ في كلّ جانب فتأتي الثعالب وبنات آوى تلحسه عن الصخور ثمّ ترتدّ إلى جثّتها فتمزقّها بأنيابها وتقشط لحمها عن عظمها ثمّ تزدرد اللحم وتمضي في سبيلها .


في هذه اللحظات بالذات مرّت من فوق رأس خيزران حمامتان برّيتّان وحطّتا على صخرة في الجانب المقابل من الوادي حيث راحتا تتناغيان وتتبادلان القبل في غنج وجذل , فشغلها منظرهما عن صورة جثتها وقد عبثت بها الثعالب وبنات آوى. ومرّ في خاطرها طيف شابّ لطيف في بيت من البيوت التي كانت تبيعها اللبن . وتذكرّت كيف أن ذلك الشاب أخذها مرة بين ذراعيه , وعنوة استرق قبلة من شفتيها المتفتحتين لحياة الأنوثة . وما كادت هذه الذكرى الحلوة تغمر قلبها حتى فوجئت بلسعة في عنقها . فانتفضت ووثبت واقفة .ثم التفتت إلى الوراء فأذهلها أن ترى جيشاً من النحل في ذهاب وإياب لا ينقطع لهما خيط , وأن ترى ذلك الجيش يندفع من شقّ في الصخرة التي من خلفها ويعود إليه , فأدركت بفطرتها القرويّة أنها أمام خليةّ من النحل البرّي.