شهيدة الشهيد
الحلقة الثالثة
كان قد مرّ على أخيها خمسة أيام وهو يعاني آلام الحصبة, عندما عوّلت خيزران على الانتحار .واتفق في صباح ذلك اليوم المشؤوم من أيام الصيف أن ناولتها أمهّا جرّة اللبن لتذهب بها على عادتها وتبيعها للمصطافين . وزوّدتها علاوة على إرشاداتها المعتادة بوصية جديدة :
" اسمعي يا خيزران... أخوك مريض بالحصبة , وخير دواء للحصبة هو العسل , ولا عسل عندنا ولا مال لنشتري به عسل . فاسألي أينما ذهبت اليوم عن قليل من العسل واحرصي على أن لا تدفعي قرشاً واحداً.افهمي جيدّاً ما أقول : عسل وبالمجاّن... أفهمت ؟ إذن فانصرفي."فهزّت خيزران برأسها بضع هزّات لتؤكد لأمها أنها فهمت وصيتّها . ثمّ رفعت جرّة اللبن إلى كتفها وخطت خطوتين برجليها الحافيتين , وعند الثالثة هوت إلى الأرض صارخة صرخة ذعر لا يوصف . لقد تعثرت المسكينة بعود في طريقها . وكان من تعثرها أن أفلتت جرّة الصفيح من يدها فانبعجت واندلق ما كان فيها من لبن على التراب فما لبث التراب أن امتصّه.
ما درت الفتاة المنكودة الحظّ كيف تيسر لها أن تعود فتقف على رجليها ثمّ أن تفلت من يدي أمها التيّ أشبعتها لكماً ولطما وركلاً وشتائم :
" ليتها الواقعة الأخيرة بجاه ربّ العالمين . ليتني ما عشت لألدك يا أنحس البنات .أين عيناك ؟ ليتك بغير عينين . أين رجلاك ؟ ليتك بغير رجلين. تقعين أمام باب بيتك وفي سهلة لا كدرة فيها ولا مدرة؟ لا عشت لتمشي وتقعي . يا لضياع اللبن ! يا لضياع التعب ! ألعلّك تأكلين خبز الوقف؟ أم لعلّ اللّه ابتلاني بك لأكفر به وبنعمته ؟ سبحانك يا ربّي ! ما هي إساءتي إليك لتعاقبني مثل هذه المعاقبة ؟ لا كنتِ ولا كانت الساعة التي ولدتك فيها ..."
لا... ما درت خيزران كيف أفلتت من قبضة أمها , وكيف طفقت تعدو على غير هدى . وإذا بها في واد سحيق تراكمت الصخور في جوفه وعن جانبيه وانساب في قعره جدول ماؤه أنقى من البلور, وشدو أعذب من شدو الكناري. ولا هي درت مدى المسافة التي قطعتها من بيتها إلى جوف ذلك الوادي . ولكنها أحسّت ما يشبه الجمر في أخمصيها فانحدرت إلى ذلك الجدول لتبرد من حرارتهما بمياهه المثلوجة.ولشدّ ما هالها أن ترى الدم يتدفق من جراح كثيرة فيهما . ومن بعد أن غسلت رجليها وبردت جوفها أخذت تتلفّت ذات اليمين و ذات اليسار مخافة أن تكون أمها قد صممت على اللحاق بها . وقد كان صوتها لا يبرح يهدر في أذنيها فيرتجف لهديره قلبها وتنسدل غمامة على عينيها .وإذ أيقنت أن مخاوفها ما كانت إلا من نسج خيالها اطمأنّت بعض الاطمئنان.
وحانت منها التفافة فإذا بالقرب منها صخرة أعجبها شكلها فكأنها الكرسيّ العظيم . لقد نتأ منبسط منها فسيح فوق الوادي فكان من الكرسي بمثابة المقعد. وارتفع القسم الآخر عموديّاً فكان بمثابة الظهر .تسلّقت الفتاة الصخرة من غير عناء يذّكر, وجلست على المنبسط الذي فيها وقد غمرته ظلال ناعمة. فاستأنست بسكينة الوادي , وكادت تنسى ما بها .إلاّ أنها ما لبثت عاودتها ذكرى ما كان من أمرها مع أمهّا . فانتفضت وسألت نفسها بصوت عالٍ :
" والانتحار يا خيزران , متى يكون وكيف يكون ؟ "
المفضلات