يَسبحُ بدمِ الشّهادةِ ويُثبتُ لواءَ الحسين الّذي حمله يوم عاشوراء في أرض كربلاء، خفّاقاً إلى الأبد، لا تبليه الأيّام، ولا تُطأطِئُ هامتَهُ دولُ الطّغاة، وفي الجانب الآخر كان الحسين (عليه السلام) يقتحم الميدان ويحاول الوصول إلى الفرات، فحالت دونه وحدات عسكرية أُخرى، ووجّه أحد رجال ابن سعد سهمه نحو الحسين (عليه السلام) فأصاب حنكه، فانتزع الحسين (عليه السلام) السّهم وراح يستجمعُ الدمَ بيدِهِ ثمّ يلقي به ويناجي ربّه:
(اللّهمّ ! إنِّي أشكُو إليك ما يُفعَل بابن بِنْتِ نَبِيَّك)(24).
وهكذا امتلأ الميدان بالصّرْعى والشهداء من آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) والفئة الثائرة الّتي كتبت بدمائها الزّكيّة ملحمةَ الخلود والكفاح، واختطّت للأجيال طريق الثورة والجهاد.
نظر الحسين (عليه السلام) إلى ما حوله، مدّ ببصره إلى أقصى الميدان فلم يَرَ أحداً من أصحابه وأهل بيته إلاّ وهو يسبح بدم الشهادة، مُقطّع الأوصال يخطّ في مضجع الرمال من حوله الحرف المضيء والشعار الخالد:
سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى *** إذا ما نَوى حقّاً وجاهَدَ مُسْلِما
ووَاسى الرِّجالَ الصّالحين بِنَفســــه *** وفارَقَ مَثْبُوراً وخالَفَ مُجْرِما
فإنْ عِشْتُ لَمْ أنْدَمْ وإنْ مِتُّ لَمْ الَــمْ *** كفى بِكَ ذُلاًّ أن تَعيشَ وتُرْغَما
وإذن ها هو الحسين وحده يحمل سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبين جنبيه قلب عليّ، وبيده راية الحق، وعلى لسانه كلمة التقوى.
وقف أمام جموع العسكر الّتي أوغلت في الجريمة واستحوذ عليها الشيطان، ولم تفكِّر إلاّ بقتل الحسين والتمثيل بجسده الطاهر. إذن هذا هو اليوم الموعود الّذي أخبر به رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتلك هي تربَتُهُ الّتي بُشِّر بها من قبل.
حمل الحسينُ (عليه السلام) سيفه، وراح يرفع صوته على عادة الحروب ونظامها بالبراز، وراح ينازلُ فرسانهم، ويواجه ضرباتهم بعنف وشجاعة فذّة، ما برز إليه خصم إلاّ وركع تحت سيفه ركوع الذل والهزيمة.
تعلّق قلبُ الحسين (عليه السلام) بمخيّمه وما خَلّفتِ النّارُ والسيوفُ من صبية ونساء وبقايا رَحْلِه. فراح ينادي وقد هجمت قوّات عمر بن سعد على الحسين (عليه السلام) وطوّقته وحالت بينه وبين أهله وحرمه، فصاح بهم: (أنا الّذي أُقاتِلُكُم والنِّساءُ ليسَ عَلَيهِنّ جُناح، فامنعوا عُتاتَكم عن التّعرُّضِ لِحُرَمي ما دُمتُ حيّاً)(25).
صُمّتْ أسماعُ وقلوبُ أُولئكِ الأجلاف عن قول ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وتقدّم شمر ابن ذي الجوشن وعشرة من رجاله نحو مخيّم الحسين الّذي فيه عياله فصرخ فيهم الحسين:
(ويلكم إنْ لم يكن لكم دينٌ وكنتم لا تخافون يوم المعاد، فكونوا أحراراً ذوي أحساب، امنعوا رحلي وأهلي مِن طُغاتكم وجُهالكم، قال ابن ذي الجوشن: ذلك لك يا ابن فاطمة).
استمرّ الهجوم عنيفاً والحسين (عليه السلام) في بحر الجيش العرمرم، يجالد العسكر، حتّى سدَّد أحد جنود الأعداء سهماً نحو شخصه الشريف، فاستقرّ السهم في نحره، وراحت ضرباتُ الرِّماح والسيوف تمطرُ جسدَ الحسين (عليه السلام) حتّى لم يستطع مقاومة الألم والنزف وقد استحالت صفحاتُ جسدِهِ الطّاهرِ كتاباً قد خَطّتْ عليه الجِراحُ والآلامُ بمدادِ الدم أروعَ ملاحِمِ التاريخ، وكَتَبَتْ أقدسَ مواقف البطولة والشرف، فكان الجُرح في جسده أروع حرف يُكتب في سطر الخلود.
قُرِئَت تلك الحروف الجِراح فكانت سبعاً وستّين(26) حرفاً، تروي بصمتها الناطق قصّةَ الكفاح والجهاد، وتُدَوِّن بعمقها المتأصّل فُصولَ الأسى والظّليمة.
عانقَ الحسينُ (عليه السلام) صعيدَ الطّفوف، واسترسلَ جسدُهُ الطّاهرُ ممتـدّاً على بِطاح كربلاء لينتصبَ مِن حوله مشعلُ الحرِّيّة والكفاح، ويجري من شريان عنقِهِ شلاّلُ الدم المقدّس.
إلاّ أنّ روح الحقد والوحشية الّتي ملأت جوانحَ الجُناة لم تكتف بذلك الصّنيع، ولم تستفرغ أحقادَها في حدودِ هذا الموقف، بل راحَ شمر بن ذي الجوشن يحملُ سيفَ الجريمة والوحشية ويتّجه نحو الحسين (عليه السلام) ليقطعَ غُصناً من شجرةِ النبوّة، وليثكُلَ الزّهراء بأعزِّ أبنائها. لِيَفصلَ الرّأسَ عن جسدِهِ ويحملَهُ هديّةً للطّغاة، الرّأسَ الّذي طالما سجد مُخلِصاً لله، وحَملَ اللِّسانَ الّذي ما فتئ يُردِّد ذكر الله، وينادي:
(لا أُعطِيكُم بِيَدِي إعطاءَ الذَّليلِ، وَلا اُقِرُّ إقرارَ العَبيدِ).
الرّأسَ الّذي حَملَ العِزّ َوالإباءَ، ورفضَ أنْ ينحنيَ للطُّغاةِ، أو يُطأطِئَ جبهتَهُ للظّالمين. فأكبّ الحسينُ (عليه السلام) على وجهِهِ، وراحَ يَحْتزُّ رأسَ الشّرفِ والإباءِ ويحول بينه وبين الجسد الطّاهر.
وهكذا وقعتِ الجريمةُ، وولغَ القَتَلَةُ بدمِ الحسين (عليه السلام) والصّفوةِ الأبرارِ مِن أصحابهِ الميامين، وحُملَ الرّأسُ لينتصبَ وساماً خالداً، وشعاراً مجيداً على رأس رمح يَجُوبُ أرضَ الكوفةِ والشّامِ، ليعودَ مِن جديد فيستقِرَّ في كربلاء، إلى جوار الجسدِ الشّهيد.
اختكم ,,, نور علي
المفضلات