الامام الحسين عليه السلام ويوم عاشوراء
كانَ الوقتُ مساءً والشمسُ قد أرهقها المشهدُ الكئيبُ، وأثقلَ خُطاها مسيرُ ذلك اليوم الثّقيل، فراحت تتوارى خلف أُفق الصحراء، وتبتعدُ عن رحابِ الأرض لئلاّ تشهد الكارثة والمأساة، ولتتركَ الأرض للقمر في ليلته العاشرة يرافق الحسين (عليه السلام) ويشهد دعاءه، ومناجاته . وقُبيل المغيب وقف الحسين (عليه السلام) في أصحابه وأهل بيته (عليهم السلام) خطيباً لِيُخْبِرَهُم أنّ القوم لا يُريدونَ قتل غيره، وبوسع كل واحد أن ينسحب تحت جنح الظّلام، وينجو مِنَ القتل، فرفض الجميع ذلك وأصرّوا على القتال والفداء.
جنّ اللّيلُ، وأرخَى الصّمتُ سدولَهُ، وهدأَ الطّير والهوام، ونامَت جفون الخلائق كلّها، إلاّ آل محمّد (صلى الله عليه وآله) وأنصارهم باتوا ليلتهم بينَ داعٍ ومصلٍّ وتالٍ للقرآن ومُستَغْفِر في الأسْحار، وبينَ مُودِّع ومُوصٍ بأهلِهِ وأبنائِهِ ونسائِه، فكانَ لهم دويّ كدويّ النّحل، وحركة واستعداد للقاء الله سبحانه. يُصلحِون سيوفَهُم، ويُهَيِّئونَ رماحَهُم، فباتوا تلك اللّيلة ضيوفاً في أحضان كربلاء، وباتَ التاريخ أرِقاً ينتظر الحدثَ الكبيرَ، وما يتمخّض عنه ميلادِ الصّباح، وباتَت سيوفهم ورماحهم أقلاماً تتهيّأ لتخطّ في صفحات التاريخ بمدادِ الدم المقدّس أروعَ فصل كُتِبَ في عمرِ الإنسان.
الحسين (عليه السلام) يودِّع أهله وأحبابه، ويزور السجّادَ وزينبَ وسُكينةَ وليلى والرّبابَ والباقرَ (عليه السلام) ويوصي آخر وصاياه، ويعهد بآخر عهد له، وقد استسلم للقدر، وباع نفسه لله، وقرّر أن يسقيَ شجرةَ الهدى والإيمان بغزير دمه، وفيض معاناته.
ليلة ليلاء وَغَد موحش على آلِ محمّد (صلى الله عليه وآله)، وقد أحاطت بهم الخيلُ واللّيلُ والغـربةُ والجـيشُ الّذي راحَ يتكاثف ويتجـمّع الألف بعد الألف، والمائة بعد المائة، والعشرات بعد العشرات بعد العشرات، حتّى أمسى جيشاً عرمرماً، وقد غاب عنهم وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ونأى بالغريّ(1) أبوهم أمير المؤمنـين عليّ (عليه السلام)، وقد باعد بينهم وبين المدينة المنوّرة حيث يرقد جدّهم الرسول (صلى الله عليه وآله) والحسن السبط وأُمّهم الزّهراء مسير شهر(2) للإبل والرُّكبان، وهاهم قد باتوا ليلتهم غُرباء، يتهدّدهم جيش العدوّ بالقتل والأسر والسّبي.
انقضت ليلة الهدنة، وطلع ذلك اليوم الرهيب، يوم الجمعة، يوم عاشوراء، يوم الدم والجهاد والشهادة، وطلعت معه رؤوس الأسنّة والرِّماح والأحقاد وهي مُشرعةٌ لِتَلْتَهِمَ جسدَ الحسين (عليه السلام)، وتفتكَ بدُعاةِ الحقّ والثوّار من أجل الرِّسالة والمبدأ.
عبّأ عمر بن سعد رجاله وفرسانه، فوضع على ميمنة الجيش عمرو بن الحجّاج، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن، وعلى الخيل عروة (3) بن قيس، وعلى الرجّالة شبث بن ربعي، وأعطى الرّاية دُريداً (4) مولاه.
نظر الحسين (عليه السلام) إلى الجيش الزاحف، وتأمّل به طويلاً، وهو لم يزل كالطـود الشامخ، قد اطمأنّت نفسه، وهانت دنيا الباطل في عينه، وتصاغر الجيش أمامه، فكان وأصحابه كما قال الشاعر فيهم:
لَبَسوا القلوبَ على الدّروعِ وأقبَلوا *** يَتهافَـتونَ على ذهـابِ الأنفُس
فلم تُرهِبْهُ كثرةُ الجيوش، ولم توهنْ عزيمتَهُ كثافةُ الصِّفاح والأسنّة، بل استشرق من عليائه الرّوحي المتعال، ورفع يدي الضّراعة والابتهال إلى الله سبحانه، وراحَ يُناجي:
(اللّهمَّ ! أَنتَ ثِقَتي في كُلِّ كَرْب، وَأَنتَ رَجائي في كُلِّ شِدَّة، وَأَنتَ لي في كُلِّ أمر نَزَلَ بِي ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ، كَمْ مِن همٍّ يَضْعُفُ فِيهِ الفُؤادُ، وَتَقلُّ فِيهِ الحِيلَةُ، وَيَخْذِلُ فِيهِ الصَّدِيقُ، وَيشمتُ فِيهِ العَدُوُّ، أَنزَلتُهُ بِكَ وَشَكوتُهُ إِليكَ، رَغْبَةً مِنِّي إِليكَ عَمَّن سِوَاكَ، فَفَرَّجْتَهُ عَنِّي وَكَشَـفْتَهُ، فَأنْتَ وَليُّ كُلِّ نِعْمَـة، وَصَاحِبُ كُلِّ حَسـنَة، وَمُنتَهى كُلِّ رَغْبَة)(5).
المعركة الخالدة
وهكذا استغرق الحسين (عليه السلام) في لحظة مناجاة، وموقف روحي أخّاذ، والجيوش تقترب، والجند تجول في الميدان، والحسين (عليه السلام) قد حصّن مخيّمه وأحاط ظهره بخندق أوقد فيه النار ليمنع المباغتة والالتفـاف من الخلف، وليحمي النِّساء والأطفال من العدوان المحقّق.
نظر الشمر إلى النار وهي تلتهب في الخندق فصاح: (أتعجّلتَ النّارَ قبل يوم القيامة يا حسين، فردّ عليه: أنتَ أولى بها صليّا). حاول أصحاب الحسين (عليه السلام) مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم، فاعترضه الحسين (عليه السلام) ومنعه قائلاً: (لا تَرمِه، فإنِّي أكره أن أبدأهم).
تلك أخلاقية الحرب في الإسلام، وهذه قيم أبي الشُّهداء الحسين السبط (عليه السلام)، لا يمكنه أن يحيد عنها، حتّى وهو في أشدّ الظروف قساوة وحراجة، ومع ذلك فكان هذا الشقي الشمر بن ذي الجوشن هو الّذي قتل الحسين (عليه السلام) بعد ساعات في ذلك اليوم.
وإتماماً للحجّة على أعدائه من جيش يزيد بن معاوية، طلب الحسين إليهم أنْ ينصتوا لكي يكلّمهم بكلمة، إلاّ أنّهم أَبَوْا ذلك، وعلا ضجيجهم ولغطهم، إلاّ أنّهم سكتوا في النهاية، فخطبَ فيهم الحسين مُعاتِباً لهم على دعوتهم له وتخاذلهم، كما حدّثهم بما سيقع لهم بعد قتله على أيدي الظالمين من ولاة بني أُميّة ممّا عُهِدَ إليه من جدِّه (صلى الله عليه وآله) وأبيه (عليه السلام)، وهو ما تحقّق فعلاً، وخصّ قائد الجيش وهو عمر بن سعد الّذي كان يزيد يُمنِّيه بجعله والياً على الريّ وجرجان بأنّ حلمه ذاك لن يتحقّق وأنّه سوف يُقتَل ويُرفَع رأسه على الرّمح ، قال الإمام الحسين (عليه السلام):
(تباً لكم أيّتها الجماعةُ وتَرَحاً، أفحينَ اسْتَصْرختُمونا وَلِهين مُتَحيِّرينَ، فأصْرَخْناكُم مُؤدِّين مُستعدِّين، سَلَلْتُم علينا سَيفاً لَنا في أَيْمانِكُم، وحَشَشْتُم علينا ناراً اقْتَدَحْناها على عَدوِّكُم وعَدوِّنا ، فأصبحتُم أَلْباً على أوليائِكُم، ويداً عليهم لأعدائِكُم، بغـيرِ عدل أَفشَوْهُ فيكم، ولا أمل أصبحَ لكُم فيهم، إلاّ الحرامَ مِنَ الدُّنيا أنالوكم، وخسيسَ عَيْش طَمعتُم فيه، من غيرِ حَدَث كانَ منّا، ولا رأي تَفيَّلَ لَنا، فهلاّ ـ لكم الويلات ـ إذ كرهتُمونا تركتمونا؟ فتجهّزْتُموها والسّيفُ لم يُشْهَرْ، والجأشُ طامِنٌ، والرّأيُ لم يُستَحْصَفْ، ولكنْ أسرَعْتُم علينا كطـيرةِ الدّبا، وتداعيـتُم إليها كتداعي الفَراش، فَقُبحاً لكم، فإنّما أنتم مِن طواغيتِ الاُمّةِ، وشُذّاذِ الأحْزابِ، وَنَبَذَةِ الكتابِ، وَنَفَثَةِ الشّيطانِ، وعُصبةِ الآثامِ، ومُحَرِّفي الكِتابِ، ومُطْفئي السُّنَنِ، وقَتَلَةِ أولادِ الأنبياء، ومُبيدي عترةِ الاوصياءِ، ومُلْحِقي العُهّارَ بالنّسب(6)، ومؤذِّي المؤمنين، وصرّاخ أئمّة المستهزئين، الّذين جعلوا القرآن عِضين، وأنتم ابنَ حرب وأشياعَه تعتمدون، وإيّانا تخذلون، أجل واللهِ الخَذْلُ فيكُم معروفٌ، وَشِجَتْ عليهِ عروقُكُم، وتوارَثَتْهُ أُصولُكُم وفروعُكُم ونَبَتَتْ عليهِ قُلوبُكُم، وغَشيتْ بهِ صُدورُكُم، فكُنتم أخبثَ شيء سنخاً للناصِبِ، وأَكَلَةً لِلْغاصِب.
ألا لعنةُ اللهِ على الناكثينَ الّذين يَنقضونَ الأيْمانَ بعدَ توكيدها، وقد جعلتُمُ اللهَ عليكم كَفيلاً، فأنتم والله هم، ألا وإنّ الدّعيّ ابن الدّعيّ(7) قد رَكَزَ بينَ اثنتين: بين السِّلَّةِ والذِّلَّةِ، وهيهات مِنّا الذِّلّةُ، يأبى اللهُ لنا ذلك ورسولُهُ والمؤمنونَ، وحُجورٌ طابَت وطَهُرَتْ، وأنوفٌ حميّةٌ ونفوسٌ أبيّةٌ، مِن أن نُؤْثِرَ طاعةَ اللِّئامِ على مصارِعَ الكِرامِ، ألا وإنِّي زاحِفٌ بهذي الاُسرة على قِلّةِ العَدَدِ وخُذلانِ النّاصِرِ، ثمّ أنشدَ أبيات فروة بن مسيك المرادي:
فإنْ نَهــْزِم فَهزّامــونَ قُدْمـاً *** وإنْ نُهْزَم فَغيرُ مُهزَّمينــــا
ومـا إنْ طِبُّنـا جُبــْنٌ ولكـــن *** منايانا ودولـةُ آخرينــــــــا
فَقُـلْ للشّامتيــنَ بنـا أفيقـــوا *** سَيَلْقى الشّامِتون كما لَقينا
إذا ما الموتُ رُفِّعَ عَن أُناس *** بِكَلْكَلــِهِ أناخَ بآخرينــــــــا)(8)
وحاول بعض من أصحاب الحسين (عليه السلام) أمثال زهير بن القين وبُرير(9) بن خضير أن يستعملوا لغة العقل والمنطق، وأن يشرحوا الأحداث ومبرّرات تحرّك الحسين (عليه السلام)، فلم يستجب لهما أحد.
وعاد الحسين (عليه السلام) على ظهر فرسه ووقف أمام الجيش وخاطبهم:
(أمّا بعد، فانسبوني فانظروا مَنْ أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يَحلُّ لكم قتلي وانتهاك حُرْمَتي؟ ألَستُ ابن بنتِ نبيِّكم (صلّى الله عليه وسلّم) وابن وصيّه وابن عمّه، وأوّل المؤمنين بالله، والمصدِّق لرسولهِ بما جاءَ به من عند ربِّه؟ أوَلَيس حمزة سيِّد الشهداء عمّ أبي؟ أوَلَيس جعفر الشهيد الطيار ذو الجناحين عمّي؟ أوَلَم يبلغْكُم قولٌ مستفيضٌ فيكم إنّ رسـول الله (صلّى الله تعالى عليه وآله وسلّم) قال لي ولأخي: هذان سيِّدا شبابِ أهلِ الجنّة ؟ فإنْ صدّقتموني بما أقول ـ وهو الحقّ ـ والله ما تعمّدت كذباً مذ علمتُ أنّ الله يمقت عليه أهله ويضرّ به مَن اختلقه، وإن كذبتموني فانّ فيكم مَنْ إنْ سألتُموه عن ذلك أخْبَرَكُم، سَلُوا جابِرَ بن عبد الله الأنصاري، أو أبا سعيد الخدري، أو سهلَ بن سعد الساعدي، أو زيدَ بن أرقم أو أنسَ بن مالك، يُخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسـول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لي ولأخي، أفما في هذا حاجز لكم عن سَفك دمّي؟
فقال له شمر بن ذي الجوشن: هو ـ أي الشمر ـ هو يعبد الله على حرف إنْ كانَ يدري ما تقول.
فقال حبيب بن مظاهر للشمر: والله، إنِّي لأراك تعبدُ اللهَ على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنّك صادق، ما تدري ما يقولُ، قد طبعَ اللهُ على قلبك.
ثمّ قال لهم الحسين: (فإن كنتم في شك من هذا القول أوَ تشكّون في أنِّي ابنُ بنت نبيِّـكم، فوَ الله ما بين المشرق والمغرب ابنُ بِنتِ نبيّ غيري منـكم ولا مِنْ غـيرِكم، أنا ابن بنت نبيِّـكم خاصّة، أخبروني أتطلبـوني بقتـيل منكم قتلتُـهُ؟ أو مال لكم استهلكتُهُ؟ أو بِقَصاص مِن جُراحة؟)(10).
فلم يستجب له أحد، ثمّ خاطبهم: (أما تَرونَ سَيفَ رَسُولِ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولامَةَ حَربِهِ وعِمامَتَـهُ عَلَيَّ، قالوا: نعم. فقال: لِمَ تقاتلوني؟ فلم يجيبوا إلاّ بجواب الامّعـة الّذي لا يملكُ رأياً ولا إرادة، ولا يُمَيِّزُ بين التبعيّةِ العمياءِ والطّاعةِ القائمةِ على وعي وفهم سليم، أجابوا: طاعة للأمير عُبيد الله بن زياد)(11).
ثمّ قال (عليه السلام): (أما والله، لا تَلبِثُونَ إلاّ كَرَيْثَما يُركب الفرس، حتّى تدورَ بكم دَوْرَ الرَّحى، وَتَقْلقَ بِكُمْ قَلْقَ المِـحْوَر، عَهْدٌ عَهِدَه إليَّ أبي عن جدِّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فأجمعوا أمركم وشُركاءكم ثمّ لا يَكُن أمركُم عليكُم غُمَّةً، ثمّ اقضوا إليَّ ولاَ تُنْظِرُون، إنِّي توكَّلتُ على اللهِ رَبِّي وربِّكُم، ما مِنْ دابّة إلاّ هو آخِذٌ بناصِيَتِها إنَّ ربِّي على صراط مُستَقيم)(12).
كل ذلك وعمر بن سعد مصرّ على قتال الحسين (عليه السلام)، والحسين (عليه السلام) يحاور وينصح ويدفع القوم بالّتي هي أحسن، ولمّا لم يُجْدِ نصح، ولم ينفع حوار، قال الحسين (عليه السلام) لابن سعد:
(أَيْ عُمَرُ أَتزْعَمُ تَقْتُلني، وَيوَلِّيكَ الدّعِيُّ بلادَ الرَّيّ وجرجان، والله لا تهنأ بذلك، عَهْدُ مَعْهودُ، فاصنع ما أنتَ صانِع، فانّكَ لا تَفْرَحِ بَعـدي بدُنياً ولا آخِرة، وكأنِّي برَأْسِكَ على قَصَبة يَتَراماهُ الصِّبْيانُ بالكوفَةِ وَيتّخِذُونَهُ غَرَضاً بينهُم، فَصَرَفَ بِوَجْهِهِ عَنْهُ مُغْضباً)(13).
أستحوذ الشيطان على ابن سعد، ونادى حامل الرّاية: (يا دُرَيْدُ ! أدْنِ رَايَتَك، فَأَدناها، ثمّ وَضَعَ سَهْمَهُ في كَبِدِ قَوْسِهِ، ثُمّ رَمى، فقال: اشهدوا أنِّي أوّلُ مَنْ رَمَى، ثمّ ارتمى النَّاسُ وتبارَزُوا)(14).
وهكذا أضرمَ ابن سعد نار الحرب، وَوَجَّه سهامه نحو مخيّم آل الرّسول (صلى الله عليه وآله)، فتبعهُ جنده ورماته يمطرون الحسين (عليه السلام) وأصحابه بوابل من السهام، حتّى لم يبق أحد من أصحاب الحسين (عليه السلام) إلاّ وأصابه سهم.
عظم الموقف على الحسين (عليه السلام)، فخاطبَ أصحابه: (قُومُوا رَحِمَكُمُ الله إلى الموتِ الّذي لا بُدَّ منه، فإنَّ هذه السِّهامَ رُسُلُ القَوْمِ إليكُم)(15).
لقد أصبحت هذه الفئة الحسينيّة المجاهدة الّتي لا يتجاوز عددها العشرات أمام جيش، عِدَّتُه تبلغُ الألوفَ، ومع هذا الفارق في العدد والعُدّة، فإنّ أحداً لم يتراجـع من رجال الحسـين (عليه السلام)، ولم يَنْكُص أمامهم شابٌّ ولا غلام، فاسـتجابوا للنفير، ولبّوا النداء وانطلقوا كالأُسود الضّواري يلتحمون مع العدوّ بكلِّ ما أُوتوا مِن قوّة وبأس، فاشتدّ القتال، وحمي الوطيس، ودارت رحى الحرب وغطّى الغبارُ أرجاءَ الميدان، واستمرّ القتال ساعةً من النّهار، فما انجلتِ الغُبْرَةُ ولا إنْجابَ الالتحام إلاّ عن خمسين صريعاً من أصحابِ الحسين (عليه السلام)(16).
ثمّ نادى بعض أصحاب عمر بن سـعد بالبراز، فتواثب أصحاب الحسين (عليه السلام): حبيب ابن مظاهر وبُرير وعبد الله بن عُمير الكلبي يطلبون الإذن من الحسين (عليه السلام) ويتسابقون للشهادة، فانتدب الحسين (عليه السلام) عبد الله بن عمير للبراز ليصول في ميدانِ الشرف والجهاد، وراح عبد الله يُنازِلُ الخصومَ، ويُقارِعُ الأقرانَ، ويصولُ في ميدانِ الجهاد.
نظرت إليه أُمّ وهب زوجته، وجراحات يده اليسرى تسيل وتنزف دماً، فهالها الموقف، واسـتنفر الغضب عزيمتها، فحملت عمود الخيمة واتّجهت نحو الميدان، (وأقبلت نحو زوجها تقول له: فداك أبي وأُمِّي قاتلْ دون الطيِّبين ذريّةِ محمّد، فأقبل إليها يردّها نحو النِّساء فأخذت تجاذب ثوبه، ثمّ قالت: إنِّي لن أَدَعَكَ دونَ أن أموتَ معَك، فناداها الحسين فقال: جُزِيْتُم عْنْ أَهلِ بَيْتِ نَبيِّكم خَيْراً، ارْجِعِي إلى الخَيْمَةِ، فَلَيْسَ عَلى النِّساء قِتالٌ)(17).
استمرّت رحى الحرب تدور في ميدان كربلاء، وشلاّل الدم المقدّس يجري ليتّخذ طريقه عبر نهر الخلود، وأصحاب الحسين (عليه السلام) يتساقطون الواحد تلو الآخر، وقد أرهقوا جيش العدو وأثخنوه بالجراح، فتصايح رجال عمر بن سعد: لو استمرّت الحرب برازاً بيننا وبينهم لأتوا على آخرنا، لنهجم مرّة واحدة، ولِنُرشِقُهم بالنبال والحجارة.
تقدّمت وحدات من الجيش الأموي يقودها عمرو بن الحجّاج، وهاجمت ميمنة الحسين (عليه السلام)، فاستعمل أصحاب الحسين (عليه السلام) أسلوباً عسكرياً رائعاً، جثوا على ركبهم واشرعوا الرماح، فخافت الخيل وتراجعت بفرسانها، استغلّ أصحاب الحسين (عليه السلام) إدبار الخيل ورجوعها فأطلقوا نبالهم يصطادون بها عناصر الحملة الظّالمة.
عاود الجيش الأموي الحملة، فقاد شمر بن ذي الجوشن قطعات من عسـكره، وهاجم ميسرة الحسين (عليه السلام)، ودارت معركة طاحنة، استطاع الرجال الّذين بقوا مع الحسين (عليه السلام) صدّ الهجوم، وَرَدَّ الشمر على أعقابه، وقد أبلى فيها عبد الله بن عمير الكلبي بلاءً حسناً، وأبدى بسالة نادرة، فَقَتَلَ تسعة عشر فارساً واثني عشر راجلاً، فسقط جريحاً ثمّ اُسِرَ وقُتِلَ صبراً.
ولم تحتمل أُمّ وهب قتل زوجها وفراق الرّجل المقدام، فاتّجهت إلى ساحة المعركة وراحت تحنو على الجسد المسجّى بقلبها المثكول، وغُربَتِها المُفجعة، وتَمسحُ الدمَ عن الرّأس الحُرِّ الأبي وهي تقول له: هنيئاً لك الجنّة.
نظر الشمر إلى صلابتها وتحدِّيها، فاستعظم موقفها وأمر غلاماً له بقتلها، نفّذ العبد أمر سيِّده، واتّجه يحمل عموداً من حديد فضرب أُمّ وهب على رأسها، فسقطت شهيدة تسبح بدم الشهادة وتعانِقُ روحَها روحَ الزّوج الحبيب، فاقتطع القتلة رأسها ورموا به نحو مخيّم الحسين (عليه السلام).
استمرّ الهجوم والزّحف نحو من بقي مع الحسين (عليه السلام)، وأحاطوا بهم من جهات متعدِّدة، فتعالت أصوات ابن سعد ونداءاته إلى جيشه وقد دخل المعسكر يقتل وينهب: (أحرِقوا الخيام)، فضجّت النِّساءُ، وتصارخَ الأطفال، وعلا الضّجيجُ، وراحتْ ألسنةُ النار تلتهم المخيّم، وسكّانُهُ يَفرّون فزعين مرعوبين.
ها هو الجيش الأموي يهاجم مخيّم آل الرسول، وقد زالت الشمس وحضر وقت الصلاة، وليس معقولاً أن يغيب الحسين (عليه السلام) عن الوقوف بين يدي الله، يوحِّـده ويُسَبِّحُه ويُناجيه، وها هو يستعين بالصبر والصلاة، وَيشدُّهُ الشّوقُ والحبُّ الإلهي المقدّس، فينادي للصّلاة وقد تحوّلَ الميدان عنده محراباً للجهاد والعبادة، وليس بوسعِ الأسِنَّةِ والسُّيوف أن تحولَ بينه وبين الحضور في ساحة المناجاة، والعروج إلى حظائر القدس، وعوالم الجلال(18)، والحرب لَمّا تَضَعْ أوزارَها، والمعارِك لم يهدأ سعيرها، فراحَ مَن بقي من أصحاب الحسين (عليه السلام) وأهل بيته (عليهم السلام) ينازلون الأعداء، ويستشهدون الواحد تلو الآخر: ولده عليّ الأكبر، إخوته: عبيد الله، عثمان، جعفر، محمّد، أبناء أخيه الحسن: أبو بكر، القاسم، الحسن المثنّى(19)، ابن أُخته زينب: عون بن عبد الله بن جعفر الطيار، آل عقيل: عبد الله بن مسلم بن عقيل، عبد الرّحمن بن عقيل، جعفر بن عقيل، محمّد بن مسلم بن عقيل، عبد الله بن عقيل. أُولئك الأبطال الأشاوس من آل عقيل وآل عليّ بن أبي طالب، مجزّرين كالأضاحي، يتناثرون في أرض المعركة، تناثر النجوم في سماء الخريف، ويسبحون في بُرَكِ الدمِ سبحَ الشّقائق في حوض النهر.
وقف الحسين (عليه السلام) بينهم ينادي، وقد أيقنَ باللّحوق بهم والاجتماع معهم تحتَ سرادق الرّحمة مع الشُّهداء والصِّدِّيقين والنّبيِّين، بعد أن حزّ في نفسه عويلُ النِّساء، وصراخ الأطفال، ولوعةُ اليتامى والأرامل من آل محمّد (صلى الله عليه وآله) ومَن رافقهم في رحلة الشهادة والخلود، وقف ينادي:
(هَلْ مِن ذابٍّ عن حرمِ رسـول الله؟ هل مِن مُوَحِّد يخـافُ اللهَ فينا؟ هَلْ مِن مُغِيثٍ يرجو اللهَ في إغاثَتِنا)(20).
فلم يجبه غير صراخ النسوة، وعويل الأطفال وضجيجُهُم المروِّع، لم يبق أمام الحسين (عليه السلام) إلاّ أن ينازل القوم بنفسه، ويدخل المعركة مبارزاً بفروسيته وشجاعته، وقلبُهُ يَفيضُ حُبّاً وحناناً وخوفاً على أهله وحرمه، وحرم الأنصار وأيتام الشّهداء، وقد أيقنَ أنّه لن يعود بعد هذه الحملة، فحامت عواطف الحب، ولواعج الأبوّة المفجوعة حول ولده الرضيع عبد الله ، فشدّه الشوق إليه وأَجاءَتْهُ ساعةُ الفِراق نحوَهُ، ووقفَ على بابِ الخيمةِ ينادي أُخته زينب، ويطلب منها أن تحمل إليه ولده ليطبع على شفتيه القبلة الأخيرة، ويلقي عليه نظرة الوداع.
فجاءت به عمّته زينب تحمله، فرفعه الحسين (عليه السلام) لِيُعانِقَهُ ويُقَبِّلَ شفتيه الذابلتين، فسبقهُ سهمٌ من معسكرِ الأعداء إلى نحرِ الطِّفل الرّضيع(21) وحالَ بينه وبين الحياة. فراح يفحصُ رغامَ الموتِ بقدميه، ويسبحُ في مَسربِ الدم البريء، ويكتب بذلك الدمِ المقدّسِ أروعَ قصيدة في ديوان المآسي، ويخاطبُ ضميرَ الإنسان عبرَ أجيال التاريخ بتلك الظليمة والفاجعة الّتي رُزِئَ بها آل محمّد (صلى الله عليه وآله) في يوم عاشوراء.
ما عسى أن يفعل الحسين (عليه السلام)؟ وكيف يمكن أن يتصرّف أبٌ مفجوع وقد سالت بينَ يديه دماء طفل رضيع بريء، يناغي السماء، ويملأ أحضان أبيه بالبشر والابتسامة؟ ما عسى أن يصنع الحسين (عليه السلام) وهو يرى وَلَدَهُ الرّضيعَ قد ذُبِحَ بينَ يديه؟
وقف الحسين (عليه السلام) كالطّود الأشمّ، لم يضعف ولم يتزعزع، بل راحَ يجمع الدم بكفّيه ويرفعه شاكياً إلى الله، باعثاً به نحو السماء، مناجياً: (هَوَّنَ عَلَيَّ ما نزلَ بهِ، أنّهُ بِعَينِ الله)(22).
وهكذا بدأ شلاّلُ الدم ينحدر على أرض كربلاء، وسُحُبُ المأساة تتجمّع في آفاقها الكئيبة، وصيحات العطش والرُّعب تتعالى من حول الحسـين (عليه السلام)، وتنبعثُ من حناجر النِّساء والأطفال.
ركب الحسين (عليه السلام) جواده يتقدّمه أخوه العبّاس بن عليّ، وتوجّه نحو الفرات ليحمل الماء إلى القلوب الحرّى، والأكباد الملتهبة من آل محمّد (صلى الله عليه وآله)، فحالت جموع من العسكر دونه، اقتطعوا العبّاس عنه، الفارس والبطل وحامل اللِّواء، فغدا الحسين (عليه السلام) بجانب والعبّاس بجانب آخر، وكانت للبطل الشجاع أبي الفضل العّباس صولة ومعركة حامية طارَتْ فيها رؤوسٌ وتساقطت فرسانُ، وقد بَعُدَ العبّاس عن أخيه الحسين (عليه السلام) يصولُ في ميدان الجهاد، حتّى وقع صريعاً (23)
المفضلات