... القبر ...
وصل المشيعون إلى المقبرة ٬ وعند مشاهدتي لها استحوذ على فؤادي الغم ٬ مروا على العديد من القبور
حتى بانت حفرة من بعيد فهيمن علي الاضطراب والرعب .
بقيت مسافة حتى قبري فوضعوا جنازتي ع لى الأرض ٬ استرحت قليلاً ٬ وبعد قليل رفعوا التابوت ثانية
وساروا به قليلاً ٬ ثم وضعوه على الأرض ثم رفعوه ساروا به وحطوا به على مقربة من القبر ٬ ألقيت بنظرة
داخل القبر فانتابني الرعب مرة أخرى .
رفعت مجموعة منهم جنازتي من التابوت وما أن أدخلوا رأسي في القبر تصورت من شدة الخوف والرهبة
كأنني هويت من السماء إلى الأرض ٬ وحينما كانوا يدخلون الجسد إلى اللحد ألقيت من خارج القبر بنظرة
إلى جسدي وأخرى وجهتها إلى الناس . فاقترب أحدهم من جسدي منادياً باسمي ٬ فدنوت منه واستمعت
لكلامه فقد كان مشغولاً بالتلقين .
كنت أسمع كل ما يقول وأردد معه ٬ ما أروعه فقد كان يتلفظ بروية وطراوة ٬ وما إن مضت لحظات حتى
بدأوا بوضع الصخور فوق اللحد ٬ فشعرت بالأذى والأسى لأنهم سجنوا جسدي تحت التراب .
تأملت مع نفسي من الأفضل أن أنسحب ولا أدخل القبر مع الجسد ٬ ولكن لشدة تعلقي بالجسد جئت إلى جا نب
الجنازة ٬ وفي طرفة عين بدأت الأيدي تهيل التراب على الجسد .
... حل أوان الغربة ...
انتابني السرور لكثرة الذين جاؤوا لمواراة جثماني الثرى ٬ وشعرت بالمتعة لحضورهم وتلاوتهم للقرآن
والصلوات على النبي وآله ٬ ثم أخذ الحاضرون بالانصراف شيئاً فشيئاً ولم يبقى منهم إلا نفر يقدرون بعدد
الأصابع ٬ ولكن لم يمض من الوقت إلا القليل حتى تركوني وحيداً – وهذا مالم أصدقه – ربما لا تتصورون
ما جرى علي في تلك اللحظات ٬ فلم أكن أتوقع منهم هذا الجفاء ٬ أولادي ٬ بناتي ٬ زوجتي وكذلك أصدقائي
المقربين الذين لم أبخل عليهم بالمودة ٬ لكنهم سرعان ما انصرفوا وتركوني وحيد اً! وددت لو أصرخ فيهم :
أين تذهبون ؟ ابقوا معي ٬ لا تتركوني وحيداً ... في تلك الأثناء سمعت منادياً ينادي في الناس : توالدوا
للموت ٬ واجمعوا للفناء وابنوا للخراب ٬ ولكن للأسف فقد كانوا في وادٍ آخر محرومين من الاستماع له ذا
النداء ٬ ولما عرفت أن الناس قد خرجوا من المقبرة ناديتهم : اذهبوا ٬ ولكن اعلموا بأنكم ستنزلون التراب
يوماً صدقتم أم لم تصدقوا ٬ شئتم أم أبيتم ٬ اعلموا فوا لله لا يؤخر الأجل .
بعد كل ذلك الصراخ والعويل رجعت إلى نفسي فوجدت أن كل ما بقي لي هو قبر مظلم موح ش مهول يثير
الغموم ٬ فاستحوذ علي الرهبة ٬ أخذت أفكر مع نفسي : وكأنهم قد قذفوا في فؤادي كل ما في أفئدة أهل
الأرض من غموم وكل مافي الدنيا من قلق ٬ وإنه غم ورعب لو نزل على بدن الإنسان لأهلكه ٬ ونتيجة لذلك
الضغط النفسي بكيت وسالت دموعي ساعات وساعات .
أخذت أ تذكر أعمالي فأدركت قلة بضاعتي ٬ فتمنيت لو عدت مع الذين كانوا قد اجتمعوا على قبري ٬ كي
أقضي عمري بالعبادة وإحياء الليل والأعمال الصالحة وأنفق ما كنت جمعته خلال السنوات الأخيرة من
عمري على الفقراء ٬ ليتني ... ليتني .
وأنا غارق في بحر أفكاري ارتفع صوت من يسار القبر : إنك تتمنى العودة عبثاً ٬ أغلقت صحيفة حياتك !
فرعبت لذلك الصوت في تلك الظلمة وكأن أحداً قد دخل القبر ٬ فسألته بصوت مهزوز : من أنت ؟
فأجاب :
أنا رومان من ملائكة الله ( تعال ى) .
قلت : لعلك عرفت مايدور في ذهني !
قال : نعم .
قلت : أقسم لو تركت ني أعود إلى ذلك العالم لن أعصي الله أبداً وأعمل على كسب رضاه . اليوم حيث انصرف
عني كل من أعرفهم بل وحتى أفراد أسرتي وتركوني ٬ أدركت غدر الدنيا ٬ فاطمئن إذا رجعت إلى الدنيا لن
أغفل لحظة واحدة عن طاعة خالقي وعبادته !
قال : إنها كلمة أنت قائلها ٬ لكن اعلم أن الواقع غير ما تتمناه فلا بد أن تمكث في البرزخ من الآن وحتى
قيام الساعة .
بعد ذلك باشر بإحصاء أعمالي الصالحة والطالحة تلك الأعمال التي ارتكبتها طيلة حياتي وسجلها الكرام
الكاتبين .
عجباً لها من صحيفة تضم حتى أصغر أعمالي صالحها وقبيحها ٬ وفي تلك اللحظات شاهدت أعمالي أمام
عيني .
كنت أفكر بثقل أعمالي وخفتها فبادر ( رومان ) إلى تعليق صحيفة أعمالي في رقبتي بحيث شعرت وكأن جبال
الدنيا كلها علقت في عنقي .
ولما أردت أن أسأله عن السبب في ذلك ٬ قال : كل إنسان يطوق بأعماله .
قلت : وإلى متى يجب أن أتحمل ثقل هذا ا لطوق ؟
قال : لا تقلق ٬ بعد ذهابي سيأتي منكر ونكير للمساءلة ثم تزول هذه المشكلة عنك .
قال رومان ذلك وانصرف .
...