وصية الإمام الباقر ( عليه السلام ) لجابر الجعفي
زوّد الإمام الباقر ( عليه السلام ) تلميذه العالم جابر بن يزيد الجعفي ،
بهذه الوصية الخالدة الحافلة بجميع القيم الكريمة ، والمثل العليا التي
يسمو بها الإنسان فيما لو طبّقها على واقع حياته ، وهذا بعض ما جاء
فيها :
( أوصيك بخمس : إن ظلمت فلا تظلم ، وإن خانوك فلا تخن ، وإن كذبت فلا
تغضب ، وإن مدحت فلا تفرح ، وإن ذممت فلا تجزع ، وفكّر فيما قيل فيك ،
فإن عرفت من نفسك ما قيل فيك فسقوطك من عين الله جلّ وعزّ عند غضبك من
الحق أعظم عليك مصيبة ممّا خفت من سقوطك من أعين الناس ، وإن كنت على
خلاف ما قيل فيك ، فثواب اكتسبته من غير أن يتعب بدنك .
واعلم بأنّك لا تكون لنا ولياً حتّى لو اجتمع عليك أهل مصرك ، وقالوا :
إنّك رجل سوء لم يحزنك ذلك ، ولو قالوا : إنّك رجل صالح لم يسرّك ذلك ،
ولكن اعرض نفسك على كتاب الله ، فإن كنت سالكاً سبيله ، زاهداً في
تزهيده ، راغباً في ترغيبه ، خائفاً من تخويفه ، فاثبت وأبشر ، فإنّه لا
يضرّك ما قيل فيك ، وإن كنت مبائناً للقرآن ، فماذا الذي يغرّك من نفسك .
إنّ المؤمن معني بمجاهدة نفسه ليغلبها على هواها ، فمرّة يقيم أودها
ويخالف هواها في محبّة الله ، ومرّة تصرعه نفسه فيتبع هواها فينعشه الله
فينتعش ، ويقيل الله عثرته فيتذكر ، ويفزع إلى التوبة والمخافة فيزداد
بصيرة ومعرفة لما زيد فيه من الخوف ، وذلك بأنّ الله يقول : ( إِنَّ
الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ
تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) .
يا جابر ، استكثر لنفسك من الله قليل الرزق تخلّصاً إلى الشكر ، واستقلل
من نفسك كثير الطاعة لله إزراءً على النفس وتعرّضاً للعفو .
وادفع عن نفسك حاضر الشر بحاضر العلم ، واستعمل حاضر العلم بخالص العمل ،
وتحرّز في خالص العمل من عظيم الغفلة بشدّة التيقّظ ، واستجلب شدّة
التيقّظ بصدق الخوف ، وأحذر خفي التزين بحاضر الحياة ، وتوقّ مجازفة
الهوى بدلالة العقل ، وقف عند غلبة الهوى باسترشاد العلم ، واستبق خالص
الأعمال ليوم الجزاء .
وانزل ساحة القناعة باتقاء الحرص ، وادفع عظيم الحرص بإيثار القناعة ،
واستجلب حلاوة الزهادة بقصر الأمل ، واقطع أسباب الطمع ببرد اليأس ، وسد
سبيل العجب بمعرفة النفس ، وتخلّص إلى راحة النفس بصحّة التفويض ، واطلب
راحة البدن باجمام القلب ، وتخلّص إلى اجمام القلب بقلّة الخطأ .
وتعرّض لرقة القلب بكثرة الذكر في الخلوات ، واستجلب نور القلب بدوام
الحزن ، وتحرّز من إبليس بالخوف الصادق ، وإيّاك والرجاء الكاذب ، فإنّه
يوقعك في الخوف الصادق .
وتزيّن لله عزّ وجلّ بالصدق في الأعمال ، وتحبّب إليه بتعجيل الانتقال ،
وإيّاك والتسويف ، فإنّه بحر يغرق فيه الهلكى ، وإياّك والغفلة ففيها
تكون قساوة القلب ، وإيّاك والتواني فيما لا عذر لك فيه فإليه يلجأ
النادمون .
واسترجع سالف الذنوب بشدّة الندم ، وكثرة الاستغفار ، وتعرّض للرحمة وعفو
الله بحسن المراجعة ، واستعن على حسن المراجعة بخالص الدعاء ، والمناجاة
في الظلم .
وتخلّص إلى عظيم الشكر باستكثار قليل الرزق ، واستقلال كثير الطاعة ،
واستجلب زيادة النعم بعظيم الشكر ، والتوسّل إلى عظيم الشكر بخوف زوال
النعم ، واطلب بقاء العزّ بإماتة الطمع ، وادفع ذل الطمع بعز اليأس ،
واستجلب عزّ اليأس ببعد الهمّة .
وتزوّد من الدنيا بقصر الأمل ، وبادر بانتهاز البغية عند إمكان الفرصة ،
ولا إمكان كالأيام الخالية مع صحّة الأبدان ، وإيّاك والثقة بغير
المأمون ، فإنّ للشر ضراوة كضراوة الغذاء .
واعلم أنّه لا علم كطلب السلامة ، ولا سلامة كسلامة القلب ، ولا عقل
كمخالفة الهوى ، ولا خوف كخوف حاجز ، ولا رجاء كرجاء معين ، ولا فقر كفقر
القلب ، ولا غنى كغنى النفس ، ولا قوّة كغلبة الهوى .
ولا نور كنور اليقين ، ولا يقين كاستصغارك للدنيا ، ولا معرفة كمعرفتك
بنفسك ، ولا نعمة كالعافية ، ولا عافية كمساعدة التوفيق ، ولا شرف كبعد
الهمّة ، ولا زهد كقصر الأمل ، ولا حرص كالمنافسة في الدرجات .
ولا عدل كالإنصاف ، ولا تعدّي كالجور ، ولا جور كموافقة الهوى ، ولا طاعة
كأداء الفرائض ، ولا خوف كالحزن ، ولا مصيبة كعدم العقل ، ولا عدم عقل
كقلّة اليقين ، ولا قلّة يقين كفقد الخوف ، ولا فقد خوف كقلّة الحزن على
فقد الخوف ، ولا مصيبة كاستهانتك بالذنب ، ورضاك بالحالة التي أنت
عليها .
ولا فضيلة كالجهاد ، ولا جهاد كمجاهدة الهوى ، ولا قوّة كردّ الغضب ، ولا
معصية كحب البقاء ، ولا ذلّ كذلّ الطمع ، وإيّاك والتفريط عند إمكان
الفرصة ، فإنّه ميدان يجري لأهله بالخسران ... )
وارجوا ان لا تكون مكررة .
المفضلات