يتبع............
3 ـ إنّ القرآن الكريم ليس كتاباً كسائر الكتب التي تؤلَّف للتعليم والبحث العلمي، وإنّما هو عملية تغيير الإنسان تغييراً شاملاً كاملاً في عقله وروحه وإرادته، وهدفه الأساس هو صنع أُمّة وبناء حضارة، وهذا العمل لا يمكن أن يوجد مرةً واحدة وإنّما هو عمل تدريجي بطبيعته، ولهذا كان من الضروري أن ينزل القرآن الكريم تدريجاً؛ ليُحْكِم عملية البناء وينشئ أساساً بعد أساس، ويجتذّ جذور الجاهليّة ورواسبها بأناةٍ وحكمة.
وعلى أساس هذه الأناة والحكمة في عمليّة التغيير والبناء، نجد أنّ الإسلام تدرّج في علاج القضايا العميقة بجذورها في نفس الفرد أو نفس المجتمع، وقاوم بعضها على مراحل حتّى استطاع أن يستأصلها ويجتث جذورها، وقصّة تحريم الخمر وتدرّج القرآن في الإعلان عنها من أمثلة ذلك، وكذلك الموقف من مختلف قضايا الأخلاق والقتال والشريعة؛ فلو أنّ القرآن نزل جملةً واحدة بكلِّ أحكامه ومعطياته الجديدة، لنفر الناس منه، ولما استطاع أن يحقّق الانقلاب العظيم الذي أنجزه في التأريخ.
4 ـ إنّ الرسالة الإسلامية كانت تواجه الشبهات والاتهامات والمواقف السياسية والأطروحات الثقافية والإثارات والأسئلة المختلفة من قِبَل المشركين، وكان النبي (صلّى الله عليه وآله) بحاجة إلى أن يواجه كلَّ ذلك بالموقف والتفسير المناسبَين، وهذا لا يمكن أن يتمّ إلاّ بشكلٍ تدريجي؛ لأن طبيعة هذه المواقف والنشاطات المعادية هي طبيعة تدريجيّة، وتحتاج إلى معالجة ميدانية مستمرة، وهذا لعلّه المراد من سياق قوله تعالى:
( وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً )(17).
نزول القرآن الكريم باللُّغة العربية:
لقد نزل القرآن الكريم باللُّغة العربية دون غيرها من اللُّغات، وهذه الظاهرة قد يكون سببها الميزات التي تختص بها اللُّغة العربية من بين اللُّغات الأُخرى، ممّا يجعلها أشرف اللُّغات، وأقدرها على استيعاب أوسع المعاني أو التعبير عنها، كما قد يوحي ذلك بعض النصوص، أو تنتهي إليه دراسات علم اللُّغات وخصائصها.
ولكنّ الشيء الذي يمكن أن يستفاد من القرآن الكريم ـ وكذلك التأمل في هذه الظاهرة ـ هو تفسيرها على أساس ارتباط هذه الظاهرة ـ أيضاً ـ بالهدف التغييري الذي أشرنا إليه، ولا ينافي هذا الارتباط شرف اللُّغة العربية وخصائصها البلاغيّة.
فبالرّغم من أنّ القرآن نزل هدايةً للعالمين، ومن أجل أن يرسم الطريق لكلِّ البشريّة، ولا يختص بقومٍ دون قوم، ولكن باعتبار أنّ الجماعة الأُولى التي كان يراد مخاطبتها بالقرآن هم عرب، واستهدف القرآن الكريم أن يخلق ضمن هذه الجماعة القاعدة التي ينطلق منها الإسلام ـ كما أشرنا إلى ذلك سابقاً ـ اقتضى ذلك نزول القرآن باللُّغة العربية، ولولا ذلك لأمكن أن نفترض ـ والله العالم ـ نزول القرآن بلغةٍ أُخرى، وبذلك ترتبط هذه الظاهرة بقضيّة الهدف التغييري، وإلاّ لأمكن أن نفترض أنّ الهداية والمضمون يمكن أن يعطيا بأي لغةٍ أُخرى.
ولمّا كانت ضرورات التغيير ـ الذي يريد القرآن أن يحقّقه في البشريّة ـ اقتضت أن يكون منطلق هذا التغيير هو الجزيرة العربية(18)، لذا أصبح من الضروري أن يكون القرآن باللُّغة العربية للأسباب التالية التي أشار القرآن إلى بعضها في تفسير هذه الظاهرة:
أ ـ اللُّغة العربية عاملٌ مؤثرٌ في استجابة العرب الأوائل للقرآن:
إنّ القرآن لو نزل بغير اللُّغة العربية لكان من الممكن أن لا يستجيب العرب لهدايته ونوره بسبب حاجز (الأنا) والتعصّب الذي كان يعيشه العرب في الجاهلية، كما تشير إلى ذلك بعض الآيات القرآنية:
( وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ* فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ )(19).
( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ)(20).
ب ـ التفاعل الروحي أفضل مع لُغة القوم:
إنّ التفاعل الروحي والنفسي الكامل مع الهداية والنور والمفاهيم القرآنيّة إنّما يتحقّق إذا كان الكتاب بلُغة القوم الذين يراد إيجاد التغيير الفعلي فيهم، لأنّ إثارة العواطف والأحاسيس إنّما تكون من خلال التخاطب باللُّغة نفسها، وأمّا المضمون فهو يتفاعل مع العقل والتفكير المنطقي، وتبقى العواطف والأحاسيس محدودةً ـ على الأقل ـ في مجال التفاعل وبعيدةً عن التأثير.
ولعلّ هذا السبب يمثِّل خلفيّة السنّة الإلهيّة في اختيار الأنبياء لكلِّ قومٍ من أُولئك الأفراد الذين يتكلّمون بلُغة القوم نفسها، حتّى تكون الحجّة بهؤلاء الرسُل أبلغ على أقوامهم، وحتّى تكون قدرتهم على التأثير أكثر:
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً)(21).
(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)(22).
ج ـ التحدّي إنّما يكون بلُغة القوم:
إنّ القرآن الكريم كان معجزةً ببيانه وأُسلوبه ـ إضافةً إلى المضمون ـ وهذا الجانب من الإعجاز لا يمكن أن يتحقّق إلاّ إذا كان بلُغة القوم، لأنّ (التحدي) ـ الذي هو محتوى الإعجاز ـ إنّما يكون مقبولاً إذا كان باللُّغة التي يتكلّم بها الناس، وإلاّ فلا معنى لأن نتحدّى من يتكلّم بلُغة، أن يأتي بكتابٍ من لغة أُخرى:
(وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(23).
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)(24).
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)(25).
وقد كان التحدّي في هذا الجانب من الإعجاز باعتبار ما كان يوليه ذلك العصر من أهميّةٍ خاصّة للبلاغة والبيان، الأمر الذي كان له أثرٌ كبير في الخضوع النفسي لهؤلاء العرب لبلاغة القرآن وبيانه.
وقد لا يكون للمضمون في منظور بعض أُولئك الجاهلين الأُميّين مثل هذه الأهميّة الخاصّة للبيان، ولعلّه لهذا كان القرآن يُتّهم بأنّه شعرٌ وسحر.
د ـ اللُّغة طريق التصوّر الكامل للرسالة:
إنّ التصوّر الكامل لأبعاد المضمون واستيعابه بحدوده لا يمكن أن يتمّ ـ خصوصاً في المرحلة الأُولى من الرسالة ـ بلغةٍ أُخرى للتخاطب، خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الكثير من المضامين القرآنية ترتبط بقضايا وآفاق بعيدة عن تصورات وآفاق الإنسان الجاهلي المعاصر لنزول القرآن، إمّا لارتباطها بعالم الغيب أو لطرحها مفاهيم عقائديّة أو اجتماعية وإنسانية تمثِّل طفرةً في النظرة المحدودة لذلك الإنسان وللعلاقات الاجتماعية والإنسانية.
ونحن نلاحظ أنّ القرآن الكريم يضطرّ ـ أحياناً ـ من أجل أن يشرح المفهوم أو يقرّبه لأذان أُولئك الجاهليين إلى أن يستخدم صوراً متعددة أو يكرّر صورةً واحدة بأساليب مختلفة.
وحينئذٍ يصبح استخدام لُغة التخاطب نفسها ضرورةً من أجل خلق القاعدة المستوعبة ولو نسبيّاً للرسالة ومفاهيمها؛ لتكون منطلقاً لنشرها في الأُمم والأقوام الأُخرى.
ولعلّ تأكيد القرآن وصفَه باللسان العربي إنّما هو باعتبار الإشارة إلى أهميّة لغة التخاطب في توضيح الحقائق والالتزام بالحجّة والتأثير النفسي:
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ* وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ)(26).
ومن الظاهر، أنّ المراد من الذين ظلموا في هذه الآية هم المشركون من أهل الحجاز، لأنّ القرآن الكريم يعبّر عن الشرك بالظلم، كما ورد في قوله تعالى:
(يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(27).
وكذلك ما يفهم من الإشارة إلى كتاب موسى والاتهام بالإفك.
ويزداد ذلك وضوحاً إذا لاحظنا أنّ وصف القرآن بالعربي، جاء في القسم المكّي من السور فقط؛ الأمر الذي يؤكّد التفسير القائل بأنّ قضيّة التغيير كانت منظورةً في ذلك، لأنّ مرحلة المكّي هي مرحلة تأسيس القاعدة وانطلاق التغيير.
وقد اقترن هذا الوصف بوصفٍ آخر وهو وصف (مُبين):
(وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ*عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ)(28).
كما أنّه جاء في آياتٍ كثيرة وصف القرآن بأنّه الكتاب المُبين، والقرآن المُبين(29).
وهذا ما يؤكّد قضيّة الوضوح في القرآن، التي جاءت لتتناسب في كونها بلغة التخاطب نفسها مع القاعدة التي يريد أن يحدثها في التغيير فعلاً.
ونجد النقاط الأربع السابقة كلها تصب في مهمّة الهدف التغييري للقرآن الكريم، الذي يهتم بخلق القاعدة للانطلاق كقضيّة مركزيّة وأساسيّة بالنسبة إلى المهمّات الأُخرى التي اهتمّ بها القرآن الكريم، وأشار إليها في مجمل الأهداف.
أسباب النزول(30)
______________________________________
1- كتب هذا البحث آية الله الشهيد الصدر (قُدِّس سرّه).
2- النساء: 163.
3- المقصود من وراء الشجرة، أنّ الكلام سُمع من الشجرة وما حولها.
4- الشورى: 51.
5- كتبه الشهيد الصدر (قُدّس سرّه).
6- البقرة: 185.
7- القدر: 1.
8- الدخان: 3.
9- هود: 1.
10- كتبه الشهيد الصدر(قُدِّس سرّه).
11- سوف نتعرّف على مزيد من التوضيح لهذا المعنى في بحث إعجاز القرآن.
12- الفرقان: 32.
13- المزّمّل: 10.
14- يونس: 65.
15- الأحقاف: 35.
16- الأنعام: 33.
17- الفرقان: 33.
18- هذه القضيّة لا بُدّ أن نأخذها في هذا البحث كبديهيّة مسلّمة، وإثباتها يحتاج إلى بحثٍ آخر تناولناه في بض محاضراتنا عن البعثة النبويّة واختصاص الجزيرة العربية ومكّة والمدينة بالذات بها.
19- الشعراء: 198 ـ 199.
20- فصّلت: 44.
21- إبراهيم: 4.
22- الشورى: 7.
23- البقرة: 23.
24- يونس: 38.
25- هود: 13.
26- الأحقاف: 11 ـ 12.
27- لقمان: 13.
28- الشعراء: 192 ـ 195.
29- تُراجع سورة المائدة: 15، والأنعام: 59، ويونس: 61، وهود: 6، ويوسف: 1، والشعراء: 2، والنمل: 1، والقصص: 2، وسبأ: 3، ويس: 69، والزخرف: 2.
30- كتبه الشهيد الصدر (قُدِّس سرّه).
منقول من موقع