(8)

سار الحسين عليه السلام حتى صار على مرحلتين من الكوفة، فإذا بالحر ابن يزيد الرياحي في ألف فارس، فقال له الحسين عليه السلام:

ألنا أم علينا؟

فقال: بل عليك يا أبا عبد الله.

فقال عليه السلام: لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم . ثم تردد الكلام بينهما حتى قال الحسين عليه السلام: فإن كنتم على خلاف ما أتتني به كتبكم، و قدمت عليه رسائلكم، فإني أرجع إلى الموضع الذي أتيت منه، فمنعه الحر و أصحابه، و قال: بل خذ يا بن رسول الله طريقا لا يدخلك الكوفة، و لا يصلك إلى المدينة، لأعتذر إلى ابن زياد بأنك خالفتني الطريق.

فتياسر الحسين عليه السلام حتى إذا وصل إلى عذيب الهجانات، ورد كتاب عبيد الله ابن زياد لعنه الله إلى الحر يلومه في أمر الحسين عليه السلام، و يأمره بالتضييق عليه فعرض له الحر و أصحابه و منعوه من السير.


فقال له الحسين عليه السلام: ألم تأمرنا بالعدول عن الطريق؟

فقال له الحر: بلى و لكن كتاب الأمير قد وصل يأمرني فيه بالتضييق عليك، و قد جعل عينا يطالبني بذلك.

فقام الحسين عليه السلام: خطيبا في أصحابه، فحمد الله و أثنى عليه و ذكر جده فصلى عليه، ثم قال:

إنه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون، و إن الدنيا قد تغيرت و تنكرت و أدبر معروفها و استمرت هذاء، و لم يبقى منها إلا صبابة كصبابة الإناء، و خسيس عيش كمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، و إلى الباطل لا يتناها عنه، فليرغب المؤمن في لقاء ربه محقا، فإني لا أرى الموت إلى سعادة، و الحياة مع الظالمين إلا برما.

فقام زهير ابن القين رضي الله عنه فقال: سمعنا يا بن رسول الله مقالتك، و لو كانت الدنيا لنا باقية، و كنا فيها مخلدين، لآثرنا النهوض معك على الإقامة.

و قام هلال بن نافع البجلي رضي الله عنه فقال: و الله ما كرهنا لقاء ربنا، و إنا على نياتنا و بصائرنا نوالي من والاك و نعادي من عاداك.

و قام برير ابن خضير رضي الله عنه فقال: و الله يا بن رسول الله لقد من الله بك علينا أن نقاتل بين يديك، و تقطع فيك أعضائنا ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة.

ثم إن الحسين عليه السلام ركب و سار، و كلما إراد المسير يمنعونه تارة، و يسايرونه أخرى – و قد عظم رعب النساء و وجل الأطفال حينئذٍ بما لا مزيد عليه – حتى بلغوا كربلاء في الثاني من المحرم فسأل الحسين عليه السلام عن اسم الأرض.

فقيل: كربلاء.

فقال عليه السلام: اللهم إني أعوذ بك من الكرب و البلاء، ثم قال: هذا موضع كرب و بلاء، أنزلوا، ها هنا محط ركابنا، ها هنا محل قبورنا، بهذا حدثني جدي رسول الله صلى الله عليه و آله. فنزلوا جميعا:

و نزل الحر و أصحابه ناحية.

و جلس الحسين عليه السلام يصلح سيفه و يقول:

يا دهر أف لك من خـليل كم لك بالإشراق و الأصــيل

من طالب و صاحب قتيل و الدهر لا يقنــــع بالبــديل

و كل حي سالــــك سبـيل ما أقرب الوعد من الرحيل

و أنما الأمر إلى الجلــيل

فسمعت أخته زينب سلام الله عليها فقالت: يا أخي هذا كلام من أيقن بالقتل.


فقال نعم يا أختاه.

فقالت زينب عليها السلام: وا ثكلاه ينعى الحسين إلي نفسه، و بكى النسوة و لطمن الخدود، و شققن الجيوب، و جعلت أم كلثوم عليها السلام تنادي:

وا محمداه وا علياه وا أماه وا أخاه وا حسيناه وا ضيعتنا بعدك يابن بنت رسول الله.

فعزاها الحسين عليه السلام و قال لها: يا أختاه تعزي بعزاء الله فإن سكان السماوات يفنون، و أهل الأرض لا يبقون، و جميع البرية يهلكون.

فقالت عليها السلام: بأبي أنت و أمي أستقتل؟ نفسي لك الفداء.

فردت عليه غصته، و تغرغرت عيناه بالدموع، ثم قال عليه السلام: و لو ترك القطا ليلا لنام.

ثم قالت: يا ويلتاه أفتغتصب نفسك اغتصابا، فذلك أقرح لقلبي، و أشد على نفسي ، و خرت مغشيا عليها.

فقام عليه السلام: فصب عليها الماء حتى أفاقت:

نادت فقطعت القلـــوب بشجوها لكنما انتظم البيــــــــان فريدا

إنسان عيني يا حســـين أخي يا أملي و عقد جماني المنضودا

إن تنـــع أعطت كل قلب حسـرة أو تدع صـدعت الجبال الميدا

عبراتها تحيي الثرى أو لم تكن ز فراتها تدع الـرياض همودا