(10)


لما زحف القوم نحو الحسين عليه السلام و طلب العباس منهم تأجيل القتال إلى غد، أمر الحسين عليه السلام أصحابه أن يقربوا بيوتهم، و يدخلوا الأطناب بعضها ببعض، و يكونوا أمام البيوت فيستقبلوا القوم من وجه واحد، و البيوت من ورائهم و عن أيمانهم و شمائلهم.

و قام الحسين عليه السلام و أصحابه الليل كله يصلون و يستغفرون و يدعون و يتضرعون و باتوا و لهم دوي كدوي النحل، ما بين قائم و قاعد و راكع و ساجد فعبر عليهم في تلك الليلة من عسكر ابن زياد اثنان و ثلاثون رجلا.

و لما ضيقوا على الحسين عليه السلام و نال منه و من أصحابه العطش قام و اتكأ على قائم سيفه، و نادى بأعلى صوته فقال:

أنشدكم الله هل تعرفوني؟

قالوا: نعم أنت ابن رسول الله و سبطه.

قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن جدي رسول الله؟

قالوا: اللهم نعم.

قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن أمي فاطمة بنت محمد صلى الله عليه و آله؟

قالوا: اللهم نعم.

قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن أبي علي ابن أبي طالب؟

قالوا: اللهم نعم.

قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن جدتي خديجة بنت خويلد أول نساء هذه الأمة إسلاما.

قالوا: اللهم نعم.

قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن جعفر الطيار في الجنة عمي؟

قالوا اللهم نعم.

قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن هذا سيف رسول الله أنا متقلده؟

قالوا: اللهم نعم.

قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن هذه عمامة رسول الله صلى الله عليه و آله أنا لابسها؟

قالوا: اللهم نعم.

قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن عليا عليه السلام كان أول القوم إسلاما و أعلمهم علما و أعظمهم حلما و أنه ولي كل مؤمن و مؤمنة.

قالوا: اللهم نعم.

قال: فيما تستحلون دمي و أبي الذائد عن الحوض يذود عنه رجالا كما يذاد البعير الصادر عن الماء، و لواء الحمد بيد أبي يوم القيامة.

قالوا: اللهم نعم.

قالوا: قد علمنا ذلك كله و نحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشا.

فلما خطب هذه الخطبة و سمع بناته و أخته زينب كلامه بكين و نادين و لطمن الخدود و ارتفعت أصواتهم، فوجه إليهن أخاه العباس عليه السلام و عليا ابنه و قال لهما: سكناهن فلعمري ليكثر بكائهن.

فلما لم يبقى معه سوى أهل بيته خرج علي ابن الحسين عليه السلام و كان من أصبح الناس وجها و أحسنهم خلقا فاستأذن أباه في القتال فأذن له ثم نظر إليه نظرة آيس منه و أرخى عينيه بالدموع و بكى، ثم قال:

اللهم اشهد فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقا و خلقا و منطقا برسولك و كنا إذا اشتقنا إلى نبيك نظرنا إليه فصاح و قال:

يا بن سعد قطع الله رحمك كما قطعت رحمي.

فتقدم نحو القوم و قاتل قتالا شديدا و قتل جمعا كثيرا، ثم رجع إلى أبيه و قال:

يا أبه العطش قد قتلني و ثقل الحديد قد أجهدني فهل إلى شربة ماء من سبيل أتقوى بها على الأعداء.

فبكى الحسين عليه السلام و قال: وا غوثاه يا بني من أين آتي لك بالماء؟

قاتل قليلا فما أسرع ما تلقى جدك محمد صلى الله عليه و آله فيسقيك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبدا.

فرجع إلى موقف النزال و قاتل أعظم قتال فرماه منقذ بن مرة العبدي بسهم فصرعه فنادى:

يا أبتاه عليك مني السلام هذا جدي يقرأك السلام و يقول لك: عجل القدوم إلينا، ثم شهق شهقة فمات عليه السلام.

فجاء الحسين عليه السلام حتى وقف عليه و وضع خده على خده و قال:

قتل الله قوما قتلوك يا بني ما أجرأهم على الله و على انتهاك حرمة الرسول، على الدنيا بعدك العفا.

[قال]: و خرجت زينب بنت علي عليهما السلام تنادي: يا حبيباه يا بن أخاه و جاءت فانكبت عليه، فجاء الحسين عليه السلام فأخذها و ردها إلى النساء.

ثم جعل أهل بيته يخرج منهم الرجل بعد الرجل حتى قتل القوم منهم جماعة.

فصاح الحسين عليه السلام في تلك الحال: صبرا يا بني عمومتي صبرا يا أهل بيتي فو الله لا رأيتم هوانا بعد هذا اليوم أبدا.

قال: و خرج غلام كأن وجهه شقة قمر فجعل يقاتل فضربه ابن فضيل الأزدي على رأسه ففلقه فوقع الغلام لوجهه.

و صاح: يا عماه!

فجلس الحسين كما يجلس الصقر، ثم شد شدة ليث أغضب، فضرب ابن فضيل بالسيف فأنقاها بالساعد فأطنه من لدن المفرق فصاح صيحة سمعه أهل العسكر، و حمل أهل الكوفة ليستنقذوه فوطأته الخيل حتى هلك.

[قال]: ثم قام الحسين على رأس الغلام و هو يفحص برجليه و الحسين يقول: بعدا لقوم قتلوك، و من خصمهم يوم القيامة جدك و أبوك، ثم قال: عز و الله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا ينفعك، صوت و الله كثر واتره و قل ناصره.

ثم حمل عليه السلام الغلام على صدره حتى ألقاه بين القتلى من أهل بيته.

و لما رأى الحسين عليه السلام مصارع فتيانه و أحبته عزم على لقاء القوم بمهجته الشريفة و نادى:

هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله صلى الله عليه و آله؟

هل من موحد يخاف الله فينا؟

هل من مغيث يرجو الله بإغاثتنا؟

هل من معين يرجو الله في إعانتنا؟

فارتفعت أصوات النساء بالعويل، فتقدم إلى باب الخيمة و قال لزينب عليها السلام:

ناوليني ولدي الصغير حتى أودعه، فأخذه و أومأ إليه ليقبله فرماه حرملة ابن كاهل بسهم فوقع في نحره فذبحه.

فقال لزينب: خديه، ثم تلقى الدم بكفيه فلما امتلأتا رمى بالدم نحو السماء ثم قال:

هون علي ما نزل بي إنه بعين الله تعالى.

[قال الباقر عليه السلام]: فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض.

[قال الراوي]: و اشتد العطش بالحسين عليه السلام فركب المسنات يريد الفرات و العباس أخوه بين يديه فاعترضته خيل ابن سعد فرمى رجل من بني دارم الحسين عليه السلام بسهم فأثبته في حنكه الشريف فانتزع السهم و بسط يديه تحت حنكه حتى امتلأت راحتاه من الدم ثم رما به و قال:

اللهم إني أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك، ثم إنهم اقتطعوا العباس عنه و أحاطوا به من كل جانب حتى قتلوه قدس الله روحه، فبكى الحسين عليه السلام لقتله بكاءا شديدا، و في ذلك يقول الشاعر:


أحق الناس أن يبكي عليه فتى أبكى الحسين بكـــربلاء


أخوه و ابن والده عـــــلي أبو الفضل المضرج بالدماء


و من واساه لا يثنيه شيء و جاد له على عطش بماء


ثم إن الحسين عليه السلام دعا الناس إلى البراز فلم يزل يقتل كل من برز إليه حتى قتل مقتلة عظيمة و هو في ذلك يقول:


القتل أولى من ركوب العار و العار أولى من دخول النار


قال بعض الروات: فو الله ما رأيت مكثورا قط قد قتل ولده و أهل بيته و أصحابه أربط جاشا منه و إن كانت الرجال لتشد عليه فيشد عليها بسيفه فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب و لقد كان يحمل فيهم و قد تكفلوا ثلاثين ألف فينهزمون بين يديه و كأنهم الجراد المنتشر، ثم يرجع إلى مركزه و هو يقول: لا حول و لا قوة إلا بالله.

[قال الراوي]: و لم يزل يقاتلهم حتى حالوا بينه و بين رحله فصاح:

ويلكم يا شيعة أبي سفيان إن لم يكن لكم دين و كنتم لا تخافون الميعاد فكونوا أحرارا في دنياكم هذه، و ارجعوا إلي أحاسبكم إن كنتم عربا كما تزعمون.

[قال]: فناداه شمر: ما تقول يا بن فاطمة؟

[فقال]: أقول إني أقاتلكم و تقاتلوني و النساء ليس عليهن جناح فامنعوا عتاتكم و جهالكم و أطفالكم و طغاتكم من التعرض لحرمي ما دمت حيا.

فقال شمر: لك ذلك يا بن فاطمة.

فقصدوه بالحرب فجعل يحمل عليهم و يحملون عليه و هو في ذلك يطلب شربة من ماء فلا يجد، حتى أصابه إثنان و سبعون جراحة، فوقف يستريح ساعة و قد ضعف عن القتال فبينا هو واقف إذ أتاه حجر فوقع على جبهته، فأخذ الثوب ليمسح الدم عن جبهته فأتاه سهم مسموم له ثلاث شعب فوقع على قلبه فقال:

بسم الله و بالله و على ملة رسول الله.

ثم رفع رأسه و قال: إلهي أنت تعلم أنهم يقتلون رجلا ليس على وجه الأرض ابن بنت نبي غيره، ثم أخذ السهم فأخرجه من وراء ظهره فانبعث الدم كأنه ميزاب فضعف عن القتال و وقف.

فكلما أتاه رجل انصرف عنه كراهة أن يلقى الله بدمه، حتى جاءه رجل من كنده يقال له مالك ابن النسر فشتم الحسين عليه السلام و ضربه على رأسه الشريف بالسيف فقطع البرنس و وصل السيف إلى رأسه فامتلأ البرنس دما.

[قال الراوي]: فاستدعى الحسين عليه السلام بخرقة فشد بها رأسه، و استدعى بقلنسوة فلبسها و اعتم عليها، فلبثوا هنيئة ثم عادوا إليه و أحاطوا به.

فخرج عبد الله ابن الحسن ابن علي و هو غلام لم يراهق من عند النساء يشتد حتى و قف إلى جنب الحسين عليه السلام فلحقته زينب عليها السلام لتحبسه فأبى و امتنع امتناعا شديدا فقال:

لا و الله لا أفارق عمي.

فأهوى بحجر بن كعب [و قيل] حرملة بن كاهل إلى الحسين عليه السلام بالسيف، قال له الغلام: ويلك يابن الخبيثة أتقتل عمي فضربه بالسيف فاتقاها الغلام بيده فأطنها إلى الجلد فإذا هي معلقة.

فنادى الغلام يا عماه!

فأخذه الحسين و ضمه إليه و قال: يابن أخي اصبر على ما نزل بك و احتسب في ذلك الخير فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين.

[قال الراوي] فرماه حرملة بن كاهل بسهم فذبحه و هو في حجر عمه الحسين عليه السلام.

و لما أثخن الحسين عليه السلام بالجراح و بقي كالقنفذ طعنه صالح بن وهب المري على خاصرته فسقط الحسين عليه السلام عن فرسه إلى الأرض على خده الأيمن و هو يقول:

بسم الله و بالله و على ملة رسول الله.

و خرجت زينب من باب الفسطاط و هي تنادي: وا أخاه وا سيداه وا أهل بيتاه ليت السماء أطبقت على الأرض و ليت الجبال تدكدكت على السهل,


يا رسول الله لو عايـــــــنتهم و هم ما بـــــين قتل و سبا


من رميض يمنع الضل و من عاطش يسقي أنابيب القنا


جزروا جزر الأضــاحي نسله ثم ساقوا أهله سوق الأمـا


قتلوه بعد علم منـــــــــــــــهم أنه خامس أصحاب الكسا


ليس هذا لرسول الله يـــــــــا أمة الطغيان و الكــفر جزا

تمت