(6)
لما عزم الحسين عليه السلام على الخروج إلى العراق قام خطيبا، فكان مما قال:
و ما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، و خير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلاة بين النواويس و كربلاء، فيملأن مني أكراشا جوفأ، و أجربة سغبا، لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصير على بلائه، و يوفينا أجر الصابرين، لن تشد عن رسول الله صلى الله عليه و آله لحمته، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس، تقر به عينه، و ينجز به وعده، ألا و من كان باذلا فينا مهجته، و موطنا على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا فإني راحل مصبحا إن شاء الله تعالى.
و جاءه تلك الليلة أخوه محمد ابن الحنفية فقال له:
يا أخي إن أهل الكوفة من قد عرفت غدرهم بأبيك و أخيك، و قد خفت أن يكون حالك حال من مضى، فإن رأيت أن تقيم فإنك أعز من في الحرم و أمنعه.
فقال: يا أخي قد خفت أن يغتالني يزيد في الحرم فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت.
فقال له ابن الحنفية: فإن خفت ذلك فسر إلى اليمن، أو بعض نواحي البر، فإنك أمنع الناس به، و لا يقدر عليك.
فقال: أنظر فيما قلت.
فلما كان في السحر ارتحل عليه السلام، فبلغ ذلك ابن الحنفية فأتاه فأخذ زمام ناقته التي ركبها.
فقال له: يا أخي ألم تعدني النظر في ما سألتك؟
فقال: بلى.
قال: فما حداك على الخروج عاجلا؟
قال: أتاني رسول الله صلى الله عليه و آله بعد ما فارقتك، فقال: يا حسين اخرج فأن الله شاء أن يراك قتيلا.
فقال له ابن الحنفية: إنا لله و إنا إليه راجعون فما معنا حملك هؤلاء النساء معك على مثل هذا الحال؟
فقال له: قد قال لي: إن الله شاء أن يراهن سبايا.
و لقيه أبو محمد الرافدي و زرارة ابن خلع قبل أن يخرج عليه السلام إلى العراق فأخبراه ضعف الناس بالكوفة، و أن قلوبهم معه و سيوفهم عليه. فأومأ بيده نحو السماء ففتحت أبوابها، و نزلت الملائكة عدد لا يحصيهم إلا الله عز وجل فقال: لو لا تقارب الأشياء، و هبوط الأجل لقاتلتهم بهؤلاء، و لكن اعلم يقينا أن هناك مصرعي، و مصرع أصحابي لا ينجو منهم إلا ولدي علي.
و خرج – بأبي و أمي – يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة سنة ستين. قال معمر ابن المثنى – في كتاب مقتل الحسين -: فلما كان يوم التروية قدم عمر ابن سعد ابن أبي وقاص إلى مكة في جند كثيف، قد أمره يزيد أن يناجز الحسين القتال إن هو ناجزه، أو يقتله إن قدر عليه.
فخرج الحسين عليه السلام يوم التروية، حين يخرج إلى عرفة إذ لم يتمكن من إتمام حجه، مخافة أن تستباح حرمات بيت الله الحرام، و مشاعره العظام، فأحل – بأبي و أمي – من إحرامه، و جعلها عمرة مفردة.
و قد انجلى عن مكة و هو ابنها و به تشرفت الحطيم و زمزم
لم يدري أين يريح بدن ركـــــابه فكأنما المأوى عليه مـــــحرم
و عن الصادق عليه السلام – فيما رواه الشيخ المفيد بإسناده إليه – قال: لما سار الحسين صلوات الله عليه من مكة لقيه أفواج من الملائكة المسومين و المردفين في أيديهم الحراب على نجب من نجب الجنة فسلموا عليه و قالوا:
يا حجة الله على خلقه بعد جده و أبيه و أخيه إن الله عز و جل أمد جدك رسول الله صلى الله عليه و آله بنا في مواطن كثيرة، و إن الله أمدك بنا.
فقال لهم: الموعد حفرتي و بقعتي التي استشهد فيها و هي كربلاء فإذا وردتها فأتـوني.
فقالوا: يا حجة الله إن الله أمرنا أن نسمع لك و نطيع، فهل تخشى من عدو يلقاك فنكون معك.
فقال: لا سبيل لهم علي، و لا يلقوني بكريهة أو أصل إلى بقعتي.
و أتته أفواج من مؤمني الجن فقالوا له:
يا مولانا نحن شيعتك و أنصارك فمرنا بما تشاء، فلو أمرتنا بقتل كل عدو لك و أنت بمكانك لكفيناك ذلك، فجزّاهم خيرا
و قال لهم: أما قرأتم كتاب الله المنزل على جدي رسول الله صلى الله عليه و آله في قوله:
قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم.
فإذا أقمت في مكاني فبما يمتحن هذا الخلق المتعوس، و بما يختبرون، و من ذا يكون ساكن حفرتي، و قد اختارها الله تعالى لي يوم دحى الأرض.
و جعلها معقلا لشيعتنا و محبينا، تقبل فيها أعمالهم و صلواتهم، و يجاب دعائهم، و تسكن إليها شيعتنا، فنكون لهم أمانا في الدنيا و الآخرة، و لكن تحضرون يوم عاشورا الذي في آخره أقتل، و لا يبقى بعدي مطلوب من أهلي و نسبي و إخوتي و أهل بيتي، و يسار برأسي إلى يزيد ابن معاوية.
ساروا برأسك يابن بنت محمد متزملا بدمــــــــائه تزميلا
قتلوك عكشانا و لمــــا يرقبوا في قتلك التأويل و التنزيلا
و يكبرون بأن قتــــلت و إنما قتلوا بك التكبير و التهليلا
* * *
رأس ابن بنت محمد و وصـيه للناظرين على قنــــاة يرفع
و المسلمون بمنظر و بمسمع لا منكر منهم و لا متفـــجع
كحلت بمنظرك العيون عماية و اسم رزؤك كل إذن تسمع
يتبع
المفضلات