( 8 )

" زمن المال والجشع "




كان شخصاً ممتلىء الجسم ..
في الأربعينات ..
يرتدي ثوباً يزهو بياضاً ..
ونعلاه يرى فيهما لمعاناً .. لشدة نظافتهما ..
وكان يمسك في يده اليسرى ملفاً ..
بينما كان يرتدي في يده اليمنى .. خاتماً فضياً مزين بفص ياقوت ..
كما كان وجهه قد تحول أحمراً لاشتداد الغضب فيه ..
وكأنما كل دم جسمه قد تجمع في وجهه ..
بينما كان يقابله شاب نحيف .. في الثامنة عشرة ..
كان يرتدي مايلبس تحت الثوب ..
كما أن ملابسه كانت متجعدة ..
وكان يجلو على وجهه ملامح البؤس والعناء ..
وكأنها قد حولته من شاب في مقتبل العمر ..

إلى عجوز على شفير القبر..
اسم الرجل .. أبو عيسى ..
والشاب هو أحمد..
وكانا هما من ارتفع صوت شجارهما..

أبو عيسى : إستمع إليَّ جيداً يا بني ..
لقد مضى الآن شهران على موعد الدفع ..

وأنت لازلت تماطلني ..
أحمد : أقسم لك بانني لا أماطل ..
وقد أخبرتك مسبقاً .. ما إن أملك المال وإن شاء الله قريباً جداً سأسدد لك ..
وأنت خير من يعلم بالحال ..

أبو عيسى : وتقول لا تماطل ..
إذن ماتسمي هذا .. هل أنا طفل أم أحمق بنظرك !

أحمد : ومن قال ذلك يا سيدي ..
فقط أعطني شهراً ..
شهراً .. واحد ..
واستر عورة أهلي بهذا البيت ..

أبو عيسى: إسمع جيداً ..
لقد صبرت عليكم كثيراً ..
وقد بلغني أن أساسات البيت قد اهترأت ..
نتيجة لإهمالكم وقلة اهتمامكم بالمنزل ..

أحمد : صدقني أننا نهتم في المنزل ..
فهو المكان الذي نعيش فيه .. فكيف لا نهتم به ..
لكنها الجرذان قد ملأت المنزل ..
ولانعرف سبيل ولا نملك المال للقضاء عليها ..
كما أنها مسؤليتك ..
فأنت لم تخبرنا حين وقعنا العقد ..
أننا سنشارك العيش في المنزل مع جرذان ..

أصغر واحد منها بحجم القط الصغير ..
أبو عيسى : وأنت لم تخبرني حين وقعت العقد .. أنك ستماطل في الدفع ..
هنا أقبل عمار ..
وشق تجمهر الناس حول المشاحنة ..

وأخذ يدعوهم إلى التفرق حتى انفضوا ..
مشى عمار صوبهما ..
بينما كان مهدي ممسكاً بتلابيب ثوبه ..
وهو ينظر بارتياب..

عمار: صلوا على محمد وآل محمد ..
الجميع : اللهم صلِ على محمد وآل محمد
عمار: ماالقضية ؟
أبو عيسى : هذا الشاب .. أجرته وأسرته هذا المنزل ..
والآن مضى أكثر من شهران على موعد الدفع ..
وهم لايزالون يماطلون

أحمد : والله ياعمار أني لا أماطل ..
وهو يعلم بحالتي المادية جيداً ..
حتى أنها المرة الأولى التي أتأخر فيها عن الدفع منذ ثلاث سنين ..
لكن لا أعلم ..
يبدو أن أبا عيسى مصممٌ أن يزُجَّ بي وأسرتي إلى الشارع ..

أبو عيسى : ناهيك عن التخريبات ياشيخ عمار التي أحدثوها بأساسات المنزل ..
أحمد : وكيف نحدث ضرراً بأساسات المنزل .. أنت تعلم جيداً أنها الفئران ..
عمار : حسناً .. حسناً ..
مارأيك يا أبا عيسى أن تعطيه شهراً واحداً كما طلب ..

وأنا أكفله لك ..
أبو عيسى : شهر واحد .. ومن أين آكل أنا وعيالي ..
عمار: أعذرنا يا أحمد ..
لكن أريد أن أكلم أبا عيسى على انفراد ..
فادخل إلى بيتك .. واطمئن ..
خير إن شاء الله ..



أمسك عمار بيد أبو عيسى برفق ..
ومشى معه إلى المكتبة ..
وبرفقتهما مهدي ..
ودخل الجميع إلى الداخل ..

عمار: اسمع يا أبا عيسى .. لأكون صريحاً معك ..
أبو عيسى : قل يا شيخ
عمار : الجميع ..
وأقصد جميعنا ..
يعلم أن لك من العقارات ما يقارب الثلاثون منزلاً ..
وكلها وبحمد الله مؤجرة ..
ناهيك عن دكانك ..
والذي هو أيضاً الزبائن تقبل عليه يومياً ..

أبو عيسى باستنفار : وماذا تريد أن تقول
ياشيخ ؟
عمار : وما تنفقوا من شيء تجدوه عند الله أعظم ..
أبو عيسى : وضّح أكثر ياشيخ ..
عمار: تبرع بالبيت لعائلة أحمد ..
فأنت تعرف أنه شاب يتيم ..
وقد قام بأمه .. وأخوته منذ نعومة أظفاره ..
فهل تريد أن يكون هذا جزاؤه من المجتمع ..




في أجزاء أقل من الثانية ..
كان هناك شيطاناً يقف خلف أبو عيسى ..
لكن أين للعين البشرية أن ترى ..؟

الشيطان : تتبرع له ..
ثم يطمع باقي المؤجرون .. ويأتون عماراً ..
ليكلمك أن تتبرع ببعض المنازل الأخرى ..
وما يدريك ..
لعلهم حتى يجبروك أن تعطي لهم الطعام مجاناً من دكانك وذلك بحجة الفقر ..
وثم ينفذ مالك وتصبح فقيراً مثلهم ..


وما إن أنهى الشيطان كلامه ..
حتى لكز أبو عيسى بإصبعه في ظهره ..
فوقف أبو عيسى غاضباً ..

أبو عيسى : ماذا تقول .. ومن قال لك يا شيخ أني متُّ وصارت أملاكي تورث ..
ولمن للغريب ؟؟

عمار : يا أبا عيسى إهدأ إنه ليس الا اقتراح .. أولسنا نسير على منهاج أهل البيت ..
أبو عيسى : بلى
عمار : أوليس أهل البيت يطعمون الطعام ..
على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ..
حتى وهم لا يملكون ما يسد رمق جوعهم ..
وأحمد وأسرته يتامى ..
فاافعل بهم خيراً .. يجزيك الله به أضعافاً ..

الشيطان : هذا الكلام سابقاً ..
لا يخدعك هذا العجوز الخرف ..
فنحن في زمن المال والجشع ..
وما إن تهبهم المنزل .. حتى يطمعون في البقية ..


وهنا دفع الشيطان أبو عيسى بيده ..
فسار أبو عيسى متجهاً خارج المكتبة ..
ثم توقف عند الباب

أبو عيسى : إسمع جيداً ياشيخ عمار..
إما يأتيني غداً بايجار المنزل ..
وإلا فليخرج و وأهله .. و لا يهمني إلى أين ..

ثم سار منطلقاً ..
يتخبطه الشيطان إلى دكانه ..


بعد أن خرج أبو عيسى ..
أطلَّ مهدي على وجه عمار بتساؤل لوهله ..
ثم قال :

مهدي : جدي عمار .. تبدو قلقاً
عمار : فعلاً .. ياصغيري ..
لكن لا تشغل بالك
مهدي : أليس هذا الرجل ظالماً ..
عمار : لاتصدر أحكاماً سريعة على الأشخاص ..
فربما كان غاضباً فقط .. وعندما يهدأ سيعود لرشده ..
أتعلم يا صغيري ..
أن أبا عيسى .. لم يكن كما رأيته الآن في الماضي ..

مهدي : حقاً
عمار : حقاً .. لقد كان شاباً مقتدراً ..
ليس غنياً ولا فقيراً ..
وأسس نفسه يوماً بعد يوم ..
حتى صارت عنده هذه الأملاك .. لكن أتعلم ماذا غيره ..

مهدي : ماذا ياجدي عمار؟
عمار : المال .. المال يا صغيري .. إما أن يسعد صاحبه وإما أن يتعسه ..
مهدي : وماذا صنع بأبي عيسى ..
عمار: أتمنى ألا يتعسه ماله ..

ثم استطرد عمار
عمار : مهدي صغيري .. أتعلم لماذا أبقيتك معنا أثناء النقاش ..
مهدي : لأنك تحبني
عمار : فعلاً .. لكن هناك سبباً آخر أيضاً ..
مهدي : وما هو؟
عمار : أردتك أن تشهد ماحصل كي تتعلم ..
أريدك أن تنشأ رجلاً في جسد رجل ..

مهدي : كيف ذلك ؟
عمار : إن شاء الله ستكبر لتصبح رجلاً ..
والرجل ليس بالمظهر فقط ..
لكن الرجل من كانت أعماله .. أعمال الرجال

مهدي : سأكون كذلك ياجدي عمار ..
ربت عمار بيده على رأس مهدي ..
ونظر إليه بعطف وابتسم ..
ثم خرج من المكتبة .. وتوجه إلى بيت أحمد

مهدي : إلى أين ياجدي عمار؟
عمار: راقب وسترى







... يتبع ...