( 5)

" حان اللقاء "





إذا كان للشوق حدود فمهدي هو حدوده ..
وإذا كان للقلق مقياس فمهدي هو مقياسه ..

كم أرتاب وهو غارق في بحور من دموع العذاب والصمت ..
وأنا لا يسعني إلا أن أشاهد ..
ويداي مغلولتان ..
ونبضات قلبي تخفق معترضة ..
لكن لا ينالني منها سوى صوتها ..
ربما كان صوت الأسى ..

الذي يطلق دعاء يطير شغوفاً لسابع سماء ..
ويطرق أبوابها مستأذن بالدخول ..
.. ياإلهي ..
إحمي هذا الصغير ..

كانت كلمات تكلمها عمار مع نفسه ..
بينما كان جالساً على كرسيه في مكتبته ..
بعد أن وضع كتاباً مفتوحاً أمامه وكان ينظر إلى صفحاته ..
لكنه لم يكن يرى حروفه ..
كان يرى وجه مهدي في كل صفحه ..
وإذا به يسمع صوتاً مألوفاً ..

صوتاً كان بانتظاره ..
صوتاً آنسه وأحب سماعه ..

مهدي : جدي عمار .. كيف حالك؟
عمار نظر إليه نظرة أب لم يرى إبنه لسنين ..
أب أخذ منه القلق مأخذه .. حتى خنقه ..
فجاءت رحمة من السماء لتزيل عنه ذاك البلاء ..

عمار : إبني الغالي .. كيف أصبحت ..
هل أنت بخير الآن ؟
مهدي : أجل .. ماعدا..
عمار: قبل أن تخبرني .. قل لي ..
لست هارباً من بيتكم الآن أيضاً ؟
مهدي : كلا ..
أبداً فقد أخبرت أمي قبل أن أخرج ..
عمار : حسناً .. وهل أخبرتها لما هربت البارحة ..
فقد كانت غاية في القلق كما أخبرني والدك ..

مهدي : كلا .. فقد أخبرتني ألا أخبر أحداً ..
عمار : أنا أخبرتك ألا تخبر أحداً !!
مهدي : نعم
عمار: عن ماذا؟
مهدي : لقد أخبرتني ..
إذا رأيت مناماً مزعجاً ألا أخبر أحداً ..
عمار: وماذا رأيت يا صغيري ؟
أحنى مهدي رأسه للأرض ..
وبدا عليه ملامح القلق والخوف ..
مهدي : نفس الحلم ياجدي عمار ..
يتكرر ويتكرر لكن بشكل مختلف ..
عمار: وكيف بشكل مختلف ؟
مهدي : حبكت الحلم أني أكون مطارداً من ..
من شيء لكني أهرب ..
وفي النهاية ينال مني ..

عمار: أخبرني بالتفاصيل
مهدي : مرة أكون طائراً أحلق في السماء ..
وفجأة يأتي غراب يطاردني وهو يضمر لي الأذى ..
وأنا أهرب وأهرب لكن في النهاية ينال مني ..
ومرات أخرى ..
أرى نفسي مهراً أجري في مروج خضراء ..
ويأتي ضبع يطاردني وأهرب لكنه يتمكن مني في النهاية ..
لكن في المرة الأخيرة ..
حين أتيتك هارباً هي التي أفزعتني ..

عمار : يا إلهي .. وما كانت آخر مره ..
مهدي : لقد كنت أنا نفسي في الحلم ..
وكنت ألعب في أزقة حارتنا ..
وفجأة أظلمت الدنيا .. وهب غبار شديد ..
ومن بين الغبار .. جاء رجل .. رجل بغيض ..
لم أتبين ملامحه ..
وأحسست أنه يضمر لي الشر ..
فهربت بسرعة وهو لايزال يتبعني .. ويطاردني ..
هربت وهربت إلى أن أدركني وأمسك رأسي ..
وأخذ يضربه في الأرض مراراً ومراراً ..

كان مهدي يروي حلمه بانفعال ..
وكأنه يعاين فعلاً ماحدث ..

عمار: هل عانيت كل هذا ياصغيري ؟
مهدي : أوتدري ماالغريب في الأمر !!
عمار : ماذا؟
مهدي : أني أشعر بكل جرح .. بكل ألم يحدث في الحلم ..
لكن في نهايته ..
في نهايته أشعر .. وكأنما غار جسمي في ماء بارد ..
وكأنه يعيد لي روحي بعد أن تفارقني ..

هنا بدا على وجه عمار الخوف ..
مهدي: هل أنا بخير ياجدي .. هل سيصيبني مكروه ؟
عمار: لن يصيبنا إلا ما كتب الله ..
مهدي: هل يحبني الله ؟
عمار: أجل ياصغيري .. فالله سبحانه يحب عباده المؤمنين ..
فكيف وأنت طفل صغير ومؤمن ..

مهدي : إذا لِـمَ يريني هذه الأحلام ؟
عمار : ربما تكون تنبيهاً لك ..
وربما تكون ليست من الله ..
قد تكون شيطانية .. وقد تكون مجرد أضغاث ..

مهدي : حقاً
عمار : حقاً ..
والآن ماأريدك أن تقوم به ..
هو أن تخرج كل يوم صدقةً عن نفسك ..
وأن تقرأ المعوذات قبل أن تنام ..

ولا تنسى دعاء الحفظ ..
مهدي : حسناً ..








بعيداً وعميقاً ..
حتى ينتحر آخر شعاع نور من ضوء المشمس ..
وحتى يختنق آخر نسيم من الهواء ..
ولا تتبقى إلا راقصات من الظلمات العارية .. تتمايل بفتور على عتبات المعاصي..

الوسواس الخناس : مولاي وماذا قررت أخيراً بشأن اللعين ؟
إبليس : وماذا برأيك ؟
الوسواس الخناس : أن نسجر له كل الشياطين كل جيشونا ومردتنا ..
إبليس : مبتدئون .. فأنت الأفضل وقد رأيت ماصنع بك ..
الوسواس الخناس : إذاً ماالحل ؟
إبليس : لاتقلق ..
الوسواس الخناس : وكيف لا أقلق .. وأتباعه يزيدون كل يوم عن الذي قبله ..
إبليس: ليزيدوا ليزيد المرح ..
فما هي إلا أيام معدودة ..
ولا ترى لهم وجود أو عودة ..

نهض إبليس مختالاً متأهباً ..
وعلى وجهه إبتسامة مكر وسعاده ..
كأنما كان مستعداً للمغادرة ..

الوسواس الخناس : إلى أين ؟
إبليس : سأزور أحدهم .. زيارة خفيفة ..
فقد حان اللقاء ..
الوسواس الخناس : تقصد عمار الخير؟َ!
إبليس : ستعرف لاحقاً ..
واختفى إبليس في لمحة عين ..

وبقي الآخر في مكانه متسائلاً ..
.. إلى أين ذهب..






... يتبع ...