(2)
" متشابهاً ومختلف "



في مكان آخر ..
لا في أعماق الأرض ولا في غياهب الظلمة ..
ولا في محراب إبليس .. بل على سطحها .. في منزل صغير متواضع ..
صحيح أنه يبدو للناظر صغير ..
لكنه من الداخل واسع رحيب ..
واسع بذكرالله والدعاء والصلاة ..
على عكس غرار معبد إبليس يبدو ضخم ..
لكن مافيه من ذنوب وشياطين جعله من الداخل ضيقاً ضنكاً ..
كان ذلك منزل عبداً صالح ..
كان يعرف باسم " عمار الخير " بين أهل منطقته..
كان الوقت فجراً ..
وكانت الرياح الهادئة تنقل في جنابتها عبقاً عطراً من صوت شجي ..
صوت لم يفتأ يناجي ربه ليلاً ..
من صلاة إلى دعاء ودموع..
إلى زيارة إلى قرآن ..
بعد أن أنهى ترانيمه القرآنية التي أضاءت ظلمة الليل ..
توجه نحو نافذته التي كانت ذات نصفين يدخلان للداخل ..
ويغلقان بالدفع نحو الخارج ..
وقف ونظر يتأمل للسماء .. ونجومها ..
وكأنه يراها لأول مرة ..
ابتسم ابتسامة صغيرة ..
دفع النافذة لإغلاقها ..
أخذ عكازه الخشبي ..
وارتدى غترة بيضاء تدلّت على جانب كتفيه .. وأخذ قارورة من دهن العود موضوعة على منضدةً جنب فراشه ..
تعطر بها وسار نحو باب الغرفة ..
وما إن فتح الباب حتى أصدر صريراً يخال لك أن هذا الصرير هو تسبيح الباب ..
لشدة إيمان هذا العمار ..
هذا كان عمار ..
رجلاً تبدو عليه ملامح الكبر والوقار ..
رجلاً في الستين من عمره ..
لكنه يبدو لازال يحمل في طيات ملامح وجهه نظارة الشباب ..
وهكذا كان يقضي كل ليله..
خرج من بيته .. وسار بهدوء ..
بخطى هادئة .. نحو المسجد ..
كان قدماه تسير إلى المسجد ..
ولسانه كان يحلق نحو الله ..
إذ لم يقف لسانه لحظة ..
عن تسبيح الله واستغفاره ..
وصل إلى بوابة المسجد بعد أن مشى مسافة استغرقت من الوقت حول الخمس دقائق .. أدخل يده في جيب ثوبه الأيمن وأخرج منه مفتاحاً فتح به باب المسجد..
أنار الأضواء ..
وسار نحو اللاقطة .. أشغلها ..
وقف باستعداد أمامها ..
وأطلق العنان لكلمات تخترق جميع الحجب .. تصل إلى العرش ..
تحيطه تسبيحاً وتهليلاً ..
مترامية حوله ..
" إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما" ..
في منزل آخر ..
كان هناك طفلاً يختلف عن الكثير من الأطفال ..
وهناك القليل من الأطفال مثله ..
لا في الشكل بل في الروح .. والمضمون .. وقف هذا الطفل بجانب والده الذي كان على استعداد أن يغلق المصحف ..
أخذ يدق على كتف أبيه مستعجلاً إياه ..
أبا مهدي وهو يغلق المصحف:
صدق الله العظيم .. ماذا تريد؟
سأل هذا السؤال وهو يعلم ماذا كان يريد
مهدي: أخبرتك يا أبي أني أريد أن أكون في المسجد منذ أن يأتي عمار الخير ..
والآن هو هناك ..
اسمع صوته يؤذن
أبو مهدي : حسناً ..
غداً نذهب حتى قبل أن يأتي عمار الخير
خرج أبو مهدي ومهدي ..
كان المسجد يبعد شارعين عن منزل أبو مهدي ..
فخرجا سيراً .. حتى وصلا إلى المسجد..
كان هذا مهدي ..
طفلاً في الثامنة من عمره ..
شديد التعلق بعمار ..
فكثيراً ماكان يزور عمار في منزله ..
يجلس معه .. يعلمه القرآن ..
حتى أنه كان يستعير من الكتب ..
التي تحتوي معلومات أكبر من عمره ..
وكان يقرأها ويستشف مابها من مضمون .. حتى حين يكون عمار في مكتبته الدينية تجده هناك يساعده في كل شيء..
كان عمار بمثابة الجد لمهدي ..
الجد الذي لم يلتقي به يوم..
فقد كان يقضي وقتاً مع عمار أكثر من الوقت الذي يقضيه مع أترابه..
مهدي : عمار ..
عمار: ماذا.. ياصغيري؟
مهدي: ليلة أمس لقد رأيت مناماً..
مناماً تكرر علي ..
مرات كثيرة
كان عمار ينقل مجموعة من كتب عن سير الائمة المعصومين وصلت حديثاً ..
ليضعها على أحد الرفوف
عمار: ألم تقرأ المعوذات ودعاء الحفظ قبل أن تنام كما علمتك؟
مهدي والقلق بادٍ على وجهه:
بلى ..
لكن الحلم لايزال يتكرر ويتكرر
عمار: وما هو الحلم ياصغيري؟
مهدي: يأتي الحلم متكرراً ..
متشابهاً.. ومختلف..
لكني..
لكني أكون مدمياً في آخره
استرعت كلمات مهدي عمار بالكامل..
فأقبل عليه..
وبفيض من الحنان أمسك بيد مهدي ليطمئنه
عمار: أخبرني .. ياصغيري ..
وإن شاء الله سنجد حلاً ..
لاتخف..

في هذه الأثناء ..
وعلى مايبدو أن المكتبة خالية إلا من عمار ومهدي..
لكن لو كشف الغطاء ..
لأعين بني آدم ..
لرأى أن أحد الشياطين كان يحوم بالمكتبة بقلق..
وهو ينظر إليهما بحقد وغضب ..
غاضباً من إيمان الشيخ ..
الذي يفيض به إلى الطفل ..
لينتج فيضاً من الأجيال المتقده بنيران الولاء المتدفق لمحمد وآله ..
وكان ينظر إلى تلك الكتب ويتمنى لو يستطيع إحراقها ..
وكان يحوم وفي عينيه نذير شؤم ..
كما كان التشاؤم من الغراب والبوم..
وكان وجوده ينذر بقدوم شر مستطير ..
فقد اكتشف مدينة معظم أهلها من المؤمنين ..
وكان أكبر معين لهم هو عمار ..
وكان ينشىء مهدي ليكون شاباً صالحاً ..
يأخذ مكانه من بعد إلتهام اللحد له ..
كان الشيطان الذي هناك هو الوسواس الخناس..




... يتبع ...