السماك و الخليفة

تغيرت أجواء قصر الخليفة يوم العيد حيث الخوان الكثيرة والأطعمة المتعددة والشراب المنوع .

كان كل من يدخل القصر ذلك اليوم يأكل ويشرب ويقضي وطرا بالفرح والسرور، وكان الخليفة في تلك الأيام - أيام العيد - غارقا في غروره وتباكر ، وهو يعطي ويهب الصلات
والأموال الكثيرة لمن يحب ويريد.

كان هارون الرشيد جالسا على عرشه وإلى جانبه زوجته زبيدة ، وهي جالسة

أيضا على كرسي مرصع بالجواهر وهما يلعبان الشطرنج ، والى اسفل منهما الخوان والموائد التي ملئت وغاصت بالأطعمة والاشربة الكثيرة والمتنوعة وكان جميع من حضر المجلس في فرح وسرور.

وقد حف المجلس خدم كثيرون وفي ايديهم موائد الطعام ، حتى إذا خلت إحدى تلك الموائد وضعوا أخرى مكانها.

دخل بهلول يوم العيد قصر الخليفة ، فطلب هارون منه الجلوس على مائدة الطعام
لكنه رفض وجلس ناحية من المجلس، وفي تلك الاثناء دخل البواب فقال : يا أمير المؤمنين، في الباب سماك يطلب إذن الدخول عليك ..

أجابه هارون وهو ينظر إلى طاولة الشطرنج (( ماذا يفعل السماك هنا وما يريد منا ؟ فإنه لا بد أن يكون الآن على نهر دجلة ))

قال البواب : (( انه جاءكم بسمك سمين ويرد أن يصل إلى خدمتكم بنفسه ))

أجاز هارون للسماك الدخول ، لأن ذلك اليوم كان عيدًا ويدخل فيه الناس على الخليفة يهنئونه به .

فلما دخل السمّاك وقدم ما جاء به من سمك إلى هارون تعجب هارون كثيرا فإنه لم كين ير من قبل ذلك اليوم مثل ذلك السمك في حجمه .

عظم السماك هارون وهو ينتظر الأجر على ذلك لينصرف ، فأمر هارون للسماك بأربعة آلاف درهم أجرا على ذلك السمك ..
اعترضت زبيدة على المبلغ الذي أعطاه زوجها هارون للسماك وقالت : (( ألا تعتقد أن ما أعطيته السماك كان أكثر مما يستحقه ؟ ))

نظر هارون لزبيدة وقال : (( لماذا تعترضين على عطائنا ؟!))
أجابته زبيدة : (( ان هذه الايام ايام عيد ياتي فيها الوجوه والاعيان والقادة واعضاء الدولة، وهم يرجون منك الصلات والعطاء وها انت قد اعطيت لهذا السماك مثل هذا المبلغ، فانك لن تستطيع ان تعطي احد اقل مما اعطيته للسماك ، والا قالوا : لم يقم امير المؤمنين لنا وزنا ، بل لسنا عنده بمنزلة سماك ))

الهى هارون نفسه بالشطرنج وذهنه مشغوول بما قالت زبيدة، ولما عرفت زبيدة ان لكلامها وقع في نفس هارون عاوت الكلام فقالت : (( إن الأمير يعلم جيدا انه لو اراد العطاء بمثل هذا المبلغ لم يبق في الخزينة شيء ))

بقي هارون اسير فعله وهو لا يعلم ما يفعل ، قال (( وكيف استطيع ان استرد ما وهبته، فانك تعلمين ان ذلك يضر بسمعتي ))
فكرت زبيدة ثم قالت : (( ان سمح لي امير المؤمنين ان افصح ما يختلج في ذهني ونسي افصحت به))

فاجابها قائلا : (( قولي فإني أحب ان اسمع ما تقترحيه ))

قالت : ادعو السماك واساله / اذكر سمكه ام انثى ))

قال هارون : ((فان اجاب بأنه ذكر او انثى ما ينفعنا ذلك ؟ ))
قالت : (( ان قال :ذكر هو قل : انا لا أحب الذكور من السمك ، وان قال : انثى قل : لا احب الاناث من الاسماك، ثم استرجع ما وهبته اياه بهذه الذريعة )).

كان بهلول قريبا من الخليفة وزوجته وسمع حوارهما ، فقال : (( ايها الامير ، اترك السماك وشأنه ، ولا يخدعك هذا الكلام ))
لم يعتن هارون لكلام بهلول، لأنه كان يحترم زبيدة زوجته كثيرا ، فأمر باحضار السماك .

رجع السمك فرحا الى داره وقد علق على ما اخذه من الدراهم الامال الطويلة العريضة وانه ماذا يفعل بها ، واذا به كذلك حتى نودي من خلفه : أن ارجع الى القصر فان الامير امر باحضارك.

نعم ايها الادقاء ، حضر السماك بين يدي الخليفة فسأله ما اقترحت عليه زبيدة ، فقال : (( هل السمك الذي اصطدته من الذكور أم من الإناث؟ ))

تبسم السماك - وهو مبهوت لما سمع- إذ ماذا يمكن أن يقول وهل يمكن ان يعرف احد ذكور السمك من إناثه ؟
اقترب في هذه اللخظات بهلول >> ايوا . من السماك وهمس بكلمات لم يسمعها احد غير السماك ثم انصرف عنه وقال : (( ان هذا السمك ليس من الذكور ولا الاناث انه من الخناثى )) تعجب هارون من جواب السماك وبقي مبهوتا لما أعجبه من ذكاء السماك، فأراد أن ينتهز الفرصة في إمتهان زوجته فقال للسماك : احسنت احسنت بما اجبت . ثم امر له باربعة آلاف درهم أخرى.

طل السماك الاذن بالانصراف ، فأذن له الرشيد بالانصراف ونظر الى زبيدة نظرة ازدراء وسخرية ..

كانت صرتا الدراهم في يد السماك وكان قد هم بالخروج فإذا بدرهم منها سقط على الارض انحتى السماك لياخذه من الارض ، فرأته زبيدة وقالت لزوجها : (( انظر جشع هذا الساك بيده ثمانية الاف درهم ومع ذلك لايتمكن من التجاوز عن درهم واحدمنها ))

أمر هارون باحضار السماك مرة أخرى ليأخذ مافي يده من الدراهم .

قال بهلول لهارون : (( اتركه وشأنه )) فلم يعر لكلام بهلول أهمية وتغافل عنه كأنه لم يسمع شيئًا وأمر باحضار السماك فلما رجع السماك قال هارون بغضب : (( بيدك ثمانية آلاف درهم فاذا سقط واحد منها انحنيت لتأخذه )).

أدرك السماك بأن هارون يريد استرجاع ما وهبه اياه، بأي حجة فانحنى أدبا ثم قال : (( اني اريد بذلك تقدير الأمير لأن على أحد وجهي هذا الدرهم آيات من الكتاب العزيز وعلى الوجه الآخر منه اسم امير المؤمنين، فإن تركته داسته الاقدام وكان ذلك اهانة لكتاب الله ولإسم أمير المؤمنين ))

أعجب هارون كلام السماك فأمر بأربعة آلاف أخرى له ، ثم نهض من كرسيه وسوى ظهره ثم قال لبهلول :((يقول الناس بأنك مجنون ، لكني أشد جنونا منك ، فقد نصحتني بترك ما فعلت مع السماك فلم أقبل منك، وأخذت بكلام هذه المرأة )).