زوجتان ورجل

((عفاف))

[ من قال أن الضرّة مرَّة؟
وأنها الخصم الذي تظل المرأة تحاربه حتى الرمق الأخير من أجل الاستيلاء الكامل على قلب الرجل وجيبه؟
لِمَا لا نستوعب المعادلة بشكل عقلاني وواقعي،
فقد تضطرنا الظروف أحياناً تقبّل الوضع والتكيف مع الحالة حتى الشعور بالرضا والارتياح،
هكذا نجحت في أن أرقى بنفسي على أحاسيس الغيرة داخلي كأي امرأة وأسترد زوجي النافر من عشه وأحفظ كيان البيت واستقراره ].

كانت (نسيمة) صديقة العمر التي حفرت في وجداني مكانة مقدسة لا يدانيها إنسان حتى يظن البعض أنني أبالغ أو أجنح إلى المثالية في وصفي العميق لشمائلها النادرة.
على مقاعد الدراسة رسمنا أحلامنا البكر،
وأسرجنا من ضوء عيوننا آمالاً كبيرة ،
فقد عشت حياة أسرية بائسة تفتقد إلى الأمان،
فثمة خلافات وصدامات بين أمي وأبي فتضطر أمي إلى ترك البيت أحياناً وأظل أمارس في غيابها دور الأم، فأنا البنت الكبرى لثلاثة أولاد وبنتان مما يدفعني في بعض الأيام إلى التغيب عن المدرسة والتعثر في الدروس،
كانت نسيمة تحضر واجباتي وتذاكر معي لأجتاز دروسي المتأخرة،
وتأتيني في المساءات الموحشة لتسمع همومي وتساعدني في أعمال البيت،
وجدت فيها نبعاً للحنان والأمان،
طلَّق أبي أمي وتزوج من أخرى وتحول البيت إلى جحيم..
وشاء الله أن أتزوج من ابن عمي وأنا في المرحلة الثانوية وأترك المدرسة بينما بقيت نسيمة تواصل مشوارها العلمي بنجاح وتفوق واستمرت علاقتنا مفعمة بالحب والعطاء وتنمو في سياق التضحيات التي برهنت على صدق مشاعرنا حتى ضُرب بنا المثل كثنائية متلاحمة،
وكنا قد اتفقنا أن ننصهر أكثر عبر تزاوج أبناءنا من بعض حتى نوثّق علاقتنا على كبر،
لكن المؤسف أن نسيمة لم يكتب لها النصيب ومن تقدم لها رفضته فطافها القطار رغم أنها مقبولة الشكل ذات مسحة طيبة وطلّة كادحة يعيبها الندوب الحمراء وحبيبات الشباب التي لوثت نقاوة بشرتها وعانت من مرارتها زمناً ويئست من علاجها ومكافحتها.

وعندما أحمل وألد هي من كانت تحوم حولي كملاك رحمة تباشر أولادي وتطبخ لهم الطعام لأن أمي هجرتنا ولم نعد نتذكرها،
فقد غابت وتلاشى أثرها،
و(نسيمة) العطوف الحنون تقبل عليّ في كل مرحلة من حياتي لتقدم لي العون والمساعدة،
كثر أبنائي وكان لكل ابن مشكلة،
حاجته، متطلباته، مذاكرته،
لم أكمل تعليمي ولم تواتيني الفرصة لأثقف نفسي وأنمي شخصيتي..
استعنت بـ (نسيمة) لتساعدني في مذاكرة الأبناء حتى أنهم أحبوها جداً ونادوها ((ماما نسيمة))،
لا تدخل بيتي إلا ومعها قالب حلوى وهدايا للأولاد،
لكني كنت أشعر بذبول شبابها،
بحزنها الدفين ورغبتها الملحة في الزواج،
وحاولت كثيراً أن أسعى في هذه المسألة وأمهد لها فرص مناسبة لكني فشلت،
إنه النصيب الذي ليس لنا يدٌ فيه،
شجعتها مراراً كي تعالج حب الشباب الذي تكاثر على بشرتها وترك آثاراً مزعجة ينعصر قلبي كلما وقعت عيني عليها..
وأقول لو أن الناس فهموا جوهرها الطيب ومعدنها الأصيل لغضوا النظر عن هذا العيب،
فجسدها متناسق وجميل،

عشت سعيدة مع زوجي أحبه بشدة ويبادلني المحبة والاحترام،
فبيتي هادئ وعشي مستقر وأولادي ناجحون، وأشعر بالرضا الكامل على حياتي..

بعد إنجابي الطفل السادس داهمتني مشكلة صحية في الرحم وجعلتني في حالة من المعاناة والألم،
أضطر في أكثر الأيام زيارة الطبيبة للعلاج،
فوضعي هذا جعلني متعبة، مرهقة، شديدة العصبية، كثيرة النرفزة،
أهملت نفسي كأن الحظ السعيد الذي توافق معي قد انقلب فجأة وحول بيتي إلى فوضى،
أخذ زوجي ينفر مني ويتقلب باستمرار ويثير شكوكي،
أعدّ له الغداء يغضب مبرراً أن طعمه غير لذيذ،
أو أنه غير جائع،
أفاتحه بشأن الأولاد يهاجمني ويتهمني بالإهمال،
إني أعزز القواسم المشتركة بيننا بينما هو ينفر متبرماً، غاضباً،
كم من المرات عاد إلى البيت متأخراً وأثور في وجهه كالعاصفة الهوجاء:
((هل تصارحني بما يحدث؟))
حدجني بنظرة مشتعلة بالغضب:
((عفاف.. أرجوكِ دعيني أنام)).
نهضت من السرير وكل ما بداخلي يغلي:
((صارحني إن كنت متزوج))
سخر مني:
((متزوج؟! ومن ترضى الزواج من أب لديه ستة أولاد؟)).
((ربما لك خليلة؟))
((عفاف أنتِ مجنونة، نامي الآن والصباح رباح)).

ما عدت أحتمل أهماله وهروبه،
خصوصاً وأنا أشعر بملامح الكبر تحرجني مع شبابه النضر وعوده الممشوق وحيويته الجذابة..
كأن الزمن توقف عنده وأخذني في قطار سريع إلى مشارف الشيخوخة..
شكوت حالي لنسيمة باكية وأقول لها :
((لا تتحسري على الزواج عزيزتي،
لأنه لعنة وعذاب)).

وتواسيني وتشفق عليَّ كالأم الرؤوم،
فقررت في هذا اليوم أن تأخذني إلى الصالون لعل في بعض الإصلاحات أملاً في رأب الصدع.

((له حق أن ينفر منك زوجك،
ألم تلاحظي الخصلات البيضاء تتدلى على جبينك قد أعلنت العجز والكبر،
وسمنتك المفرطة،
لقد أهملتِ نفسك يا عفاف،
ابدئي منذ الآن بالاهتمام بجمالك وصحتك واستعادة صباك والحمد لله فإن وسائل التجميل وأساليبه متوفرة وفي أسعار مناسبة..))

شعرت أن نسيمة قد أعادت لي بعضاً من الثقة في نفسي وذهبت إلى الصالون لأقص شعري وأصبغه بلون أشقر وتجولنا في السوق واشتريت قمصان جذابة،
لكن أحسست أن صحتي تخبو يوماً بعد آخر وآلامي تتضاعف..
ولم أعد قادرة على تلبية زوجي..
فلِمَا أخدع نفسي وأوهمها أني مازلت فتية وفي عنفوان شبابي..

حتى جاءني زوجي هذه الليلة مهموماً وفكرت في مصارحته بعد أن قلبت البدائل في ذهني وألجمت هوى نفسي وأنانيتي..
تناول عشاءه وهو كدر مغموم.
- ما بك عزيزي؟
أطرق صامتاً دون أن يتفوه بحرف.
- تزوج،
فالرجل حينما ينفر من عشه يعني هذا أنه فقد السعادة والهناء،
وأنا ما عدت قادرة على إسعادك لأني معتلة الصحة وأترك لك خيار الزواج.
قال مستاءاً:
((إنه قرار صعب ومستحيل في ظروفي)).
((هل حاولت؟))
بعد تردد، أجاب:
- نعم، ولم تحصل الموافقة.

انقبض قلبي غيرة وحنقاً وفي ذروة أحاسيسي خطرت لي فكرة.
((نسيمة)) أظنها أنسب زوجة.

((ما رأيك بها؟))
في انشداه:
((نسيمة؟ أعتقد أن صداقتكما ستنقلب إلى عداء..
((المهم أن توافق)).

واسترحنا معاً لهذا القرار وانتظرت اليوم التالي، اتصلت بنسيمة في وقت مبكر قائلة بلهفة:
((تعالي بسرعة لنفطر معاً)).
((خير إن شاء الله)).
((عجلي أرجوكِ)).

جاءتني تلهث وظنونها تتقلب بين الخوف على حياتي والرجاء في هدوء الحال.
قلت:
((يبدو أن الله لا يريد انفصام عُرى صداقتنا وسيجمعنا حتى آخر العمر)).

بدت ساكنة وهادئة تصغي دون أن تتوقع المفاجأة.
ومضيت أمهد الطريق حتى ألقيت بالخبر دفعة واحدة:
((خطبتك لزوجي!)).
تسمرت بانشداه وعيناها تحملقان بانبهار.
((أمجنونة أنتِ؟))
وعدت لأهون عليها الصدمة:
((زوجي فكر أن يتزوج وأنا في حيرة من أمري إذ كيف يأتيني بأخرى لا أعرف ماهيتها وهويتها لتغزو داري وتستولي على حقوقي،
قلقت من هذا الأمر،
اهتديت إليكِ فأنتِ أفضل زوجة يمكن أن تشاركني زوجي لأنك أمينة وصادقة وصافية النيّة لن تنخري في زواجي وتحطمي عشي بل ستبقين كما أنتِ محبة وفيّة حنون.
اعترضت بشدة:
((مستحيل، مستحيل، أرجوكِ لا تضعيني في هذا الموقف المحرج)).

وقضيت النهار طوله أقنعها لترضى بهذه الزيجة حتى قُضي الأمر وتمت الموافقة.