قال إسماعيل بن عبدالله الضلعي:
بُتُّ قريباً مِن الحيرة فلمّا جنّ الليل وإذا أنا بِرجُلٍ قد أقبل فاستتر برابية ثُمّ صفّ قدميه فأطال في المُناجاة, وكان فيما قال:
اللهم إنّي سرتُ فيهم بِما أمرني رسولك وصفيك المُرسل فظلموني وقاتلت المُنافقين كما أمرني فجهلوني, وقد مللتهم وملوني
وبغضتهم وبغضوني, فلم يبقى لي خلة أنتظرها إلاَّ المُرادي, اللهم فعجّل له الشقاء وتغمدني بالسعادة إنّهُ قد وعدني نبيك إذا سألتُك اللهم وقد رغبتُ إليك في ذلِك.
ثُمّ مضى فقفوتُ حتّى دخل منزله فإذا هو علي بن أبي طالب, ولمّا أخذ مضجعه بعد أن صلّى العِشاء الآخرة رأى النبي مُحمّداً وهو يقول له: يا أبا الحسن إنّي إليك مُشتاق وإن ّ الله سيلحقك بِنا عن قريب وعِند الله خيرُ وأبقى ثُمّ أنتبه (ع) وجمع اولاده وأهل بيته وعشيرته فأخبرهم ونعاهم نفسه, فأخذوا في البُكاء والنحيب, فنهاهم عن ذلِك وجعل يوصيهم بِفعل الخير وإجتِناب السوء ثُمّ تفرقوا واشتغل بالصلاة والدُعاء والتِلاوة.
ثُمّ يخرجُ تارة إلى خارج الدار ينظُر في الكواكب والعلامات لِما أخذهُ مِن القلق والأرق ويكثُر مِن قول لاحول ولاقوة إلاّ بالله العلي العظيم,
اللهم بارك لي في الموت ومابعد الموت, اللهم بارك لي يوم ألقاك واللهُ ماكذبت ولاكذبت إنّها الليلة التي وعِدتُ فيها,
ثُمّ نعُس قليلاً واستيقظ واسبغ الوضوء ونزل وكان في الدار وزق أُهدي للحسن والحُسين عليهما السلام, فلمّا صار في صحن الدار تصارخنَ في وجهه, فقال: لا إله إلاّ الله صوائِحٌ تتبعُها نوائح مِن نسوةٍ صوارخ فسمِع ذلك الحسن فقال: وماذاك يا أبتاه؟
فقال يابُني إنّ قلبي يُحدثني بإنِّ مقتولٌ لامحاله. فقال لإبنته أُم كلثوم بحقي عليك إلا ما أطلقتِ هذا الوزق ياكُل مِن حشائش البر, ولاتحسبي من لا لهُ لِسان ولايقدر على الكلام, واطعميه وخلّي سبيله, ثُمّ مد يدهُ إلى الباب ليفتحه فانحلّ مأزرهُ فشدّهُ شدّاً وهو يقول
أُشدُد حيازيمك للموت . . فإنّ الموت لاقيكَ
ولاتجزع مِن الموت . . إذا حلَّ بواديكَ
ولاتغتر بالدهر . . وإن كان يواتيكا
فكم رفع أقواماً . . وقد كانوا صعاليكا
كما أضحكك الدهر . . كذاك الدهرُ يُبكيكَ
قال عبدالله الأزدي: كُنت أُصلّي في المسجد الأعظم تلك الليلة وهي الليلة التاسِعة عشر مِن شهر رمضان رِجالٌ مِن أهل مصر كانوا يُصلّون ذلك الشهر مِن أوله إلى آخره إذ نظرتُ إلى رجُلٍ قريب مِن السدة, فأقبل أميرُ المؤمنين وهو يُنادي الصلاة الصلاة يرحمكم الله تعالى,
قال حُجر بن عُدي وسمعت الأشعث بن قيس يقول: النجاة النجاة لِحاجتك فقد فضحك الصُبح, فعلِمتُ ما أراد وخرجتُ لِأُخبِر أمير المؤمنين عليهِ السلام فإذا هو قد خرج وسبقني إلى الجامع, قال عبدالله الأزدي: فما رأيتُ إلا بريق السيوف وقائِلاً يقول: الحُكم لله لا لك ولا لأصاحبك ياعلي وشدّ عليه شبيب وضربهُ فأخطأ وشدّ عليه إبن مُلجم فضربهُ على مفرِّ رأسه فشقهُ نصفين فخرَّ يخور في دمه وهو يقول:
فُزتُ وربَّ الكعبة.
شعراً للمؤلّف سامحهُ الله:
طلى شيبهُ قان مِن الحُلم رِشدهُ . . تؤم هُداة المُتبقين زواهرهُ
فدبت دِماء بالعلوم مُسلّبيها . . أحالت وجوه للمدارسِ ناظره
فمن مُبلّغاً عنّي الرسول مُعزياً . . بِأن أهاضيب الشريعة هابره
ومن مُبلِّغاً ياشمس دارة فخرِها . . لقد أصبحت تلك المعالم دائِره
وإنّ عيونُ المجد إذا فُجِعت بهِ . . تسحُ أماقيها مِن الثكلِ هامره
وما مُعصرات الورقِ تُبدي حنينها . . تُطارِحُ مسجور الحشاشة شاعِره .
المفضلات