وصلت رسالة رحاب إلى مصطفى فأخذها بين يديه ثم خطر له أن يمزق الرسالة قبل أن يقرأ ما فيها. أفحقاً أن هذه هي شريكة حياته التي طالما نسج لها أحلامه ذهبية فضية ؟ أية محنة مريرة دفعته إليها زينب ؟ كيف يمكن له أن يعيش مع انسانة تشكك باقدس المثل والمفاهيم ؟ ولكنه عاد فتراجع عن قراره قائلاً : كلا أن عليّ أن أمضي في طريقي حتى النهاية ، سيما وقد بدأت أجني ثمار موقفي ... ثم فتح الرسالة وقرأها بامعان وهو يفتش بين كلماتها عن طبيعة الانسان التي كتبتها فوجد خلالها لمحات تبشر بالخير ، فحمد الله وردد قائلاً : أرجو أن لا يكون الشوط طويلاً . ثم كتب يجيبها قائلاً :


عزيزتي حسنات
ألف سلام وألف تحية
وصلتني رسالتك وأسعدني أن تكوني قد قرأتِ مهما كانت غايتك في القراءة فالمهم هي الفائدة التي حصلت عليها نتيجة ما وجدتيه بين صفحات الكتب ، ومن هذا ترين كم هي كبيرة وثمينة هذه الكنوز التي كانت ولا تزال قريبة منك دون أن تستشعري أنت ذلك القرب ، وبودي لو أعلم من أين حصلت على هذه الكتب ؟
اما عن الأسئلة الثلاث فأنت حينما اعترفتِ أن الحواس الخمس هي ليست كل شيء في طريق الادراك وإلا لتساوى الانسان والحيوان في مدى ذلك الادراك ، من هذا نعلم أن الحواس ما هي إلا وسيلة من وسائل تسهيل الادراك الذي يجرده العقل فيتوصل منه إلى الحقيقة ولهذا نجد أن هناك حقائق لا جدل في وجودها ولا نقاش ، مع عدم ادراكها بالحواس ، ومثال ذلك هو ما تؤمنين به من الوجود والعدم ، فمتى رأيت العدم بعينيك يا ترى ؟ أم متى تذوقتيه بلسانك أو لمستيه بيدك أو شممت له رائحة ؟ أو سمعت له صوتاً هل حدث هذا لك أو لسواك ؟ أو هل من الممكن أن يحدث ؟ أنه محال ، لأن المعدوم لا يحس ولا يرى ولا يسمع ولا يشم ولا يتذوق ، ومع هذا فانت وأنا وكل ذو عقل يؤمن بالوجود والعدم فكيف يحدث هذا ؟ والمستحيل عندما نقول أن رؤية العدم مستحيلة كيف عرفنا هذه الاستحالة وعن أي طريق ؟ أترانا عرفناها عن طريق الحواس ؟ هل رأيناها أو لمسناها أو شممناها أو تذوقناها ؟ طبعاً لم يحدث شيء من هذا ومع ذلك فنحن نؤمن أن هناك شيء محال ونتمكن أن نحدد ذلك الشيء كما أعطيتِ أنت لذلك مثلاً وهو إدخال الجمل في سم الخياط ... فكيف حدث هذا وهل للحواس الخمس دخل في ذلك ؟ بطبيعة الحال يكون الجواب كلا إذ لا تتمكن الحواس الخمس أن تحس بغير الموجود ومع هذا فنحن نؤمن بوجود المحال نتيجة للتجريد الفكري الذي يتميز به الانسان عن الحيوان ... وهناك حقيقة أخرى لم نتوصل إليها عن طريق الحواس ايضاً ، فالماء سائل ، هذا شيء لا جدال فيه... والحقيقة التي لم نتوصل إليها عن طريق الحواس هي أن الماء يحتوي على ذرتين من الهيدروجين وذرة من الأوكسجين هذه هي الحقيقة التي أثبتها العلم بالاستدلال المنطقي فقط دون أن تتحسسها الحواس... ثم اسمعي معي البرفسور أ.ي. ماندير وهو يقول في كتابه : ( أن الحقائق التي نتعرفها مباشرة تسمى الحقائق المحسوسة بيد أن الحقائق التي توصلنا إلى معرفتها لا تختص في الحقائق المحسوسة فهناك حقائق أخرى كثيرة لم نتعرف عليها مباشرة ولكننا عثرنا عليها على كل حال ووسيلتنا في هذا السبيل هي الاستنباط فهذا النوع من الحقائق هو ما نسميه ( بالحقائق المستنبطة ) والأهم هنا أن نفهم أنه لا فرق بين الحقيقتين وإنما الفرق هو في التسمية من حيث تعرفنا على الأولى مباشرة وعلى الثانية بالواسطة. والحقيقة دائماً هي الحقيقة سواء عرفناها بالملاحظة أو بالاستنباط ) ثم يقول البروفسور ماندير أيضاً ( إن حقائق الكون لا تدرك الحواس منها غير القليل فكيف يمكن أن نعرف شيئاً عن الكثير الآخر ؟ هناك وسيلة وهي الاستنباط أو التعليل وكلاهما طريق فكري نبتدي به بواسطة حقائق ، معلومة حتى ننتهي بنظرية أن الشيء الفلاني يوجد هنا ولم نشاهده مطلقاً هذا بالاضافة إلى قانون الجاذبية الذي لعلك تعرفين أنه لا ولن يشاهد بالحواس كما جاء في خطاب أرسله نيوتن مكتشف قانو الجاذبية إلى بنتلي فيقول : ( أنه لأمر غير مفهوم أن نجد مادة لا حياة فيها ولا إحساس وهي تؤثر على مادة أخرى مع أنه لا توجد أية علاقة بينهما ).
فعن هذا الطريق يا حسنات طريق التجريد الفكري والدليل العقلي والنقلي نؤمن بوجود الخالق وبالتالي بوجود دين يجب أن ندين فيه.
لعلني قد أطلت عليك فيما كتبت ولكنني أتوخى صالحك في ذلك وأنا على استعداد للمزيد لو أردت.

مصطفى


يتبع..