الرسالة السابعة عشر
ثقافة إقـصـاء الآخــرين :
الإقصاء عكس كلمة التقريب ، وفي اللغة يقصي الشئ أي يبعده ، وأقصى الرجل عقله أي شتته وذهب به بعيداً ، والقاصي بعكس الداني ، قال تعالى : فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) مريم، أي في مكان بعيد لم يغب عن ناظر القدس ، وقال أيضا : وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى (20) القصص ...أي من طرف المدينة.
وسمي المسجد الأقصى بهذا الأسم ،لأن الله سبحانه وتعالى أقصاه عن أيدي اليهود، والنصارى، وكل الملل السابقة، فلم يتخذوه بيتًا، ولامكانًا لعبادتهم، مع أنهم كانوا حوله، وبالقرب منه ، وليس المعنى السائد على أن المسجد الأقصى سمي بالأقصى؛ لبعده عن المسجد الحرام، وفي كلا الحالتين نستفيد إن معنى الإقصاء هو الأبعاد .
والإقصاء يحمل عدة أوجه ، منها تجاهل الشئ أوأبعاده أو القضاء عليه كلياً ، وعادة يتصف المقصّي بصفة الأنانية والنرجسية وحب الذات ، والإقصاء سلوك غير مرغوب ومنبوذ اجتماعيا ، والحيوانات الإجتماعية التنظيم لا تعرف لغة الإقصاء كمجتمع القردة والأسود والنسور والطيور المهاجرة وإلى أصغرالمخلوقات النحل والنمل .
سنتحدث قليلاً عن هذه المجتمعات التي لا تتمتع بخاصية العقل البشري والتي لا تحاسب عما تفعل ، وسنركز على أهمية الإعتراف بالآخرينفي استمرارية حياتهم الإجتماعية والسياسية .
فمجتمع القردة الكبيرة مثلا ، كإنسان الغاب (الغوريلا ) يحتوي عل عدة أسر ، كل أسرة تتكون من أب وأم وأثنين أو أقل من الأبناء، ويربط كل الأسر قائد واحد ووزير ينوب عنه في حالة مرضه أو موته . الغوريلا القائد لايقصي الآخرين في اتخاذ قراراته ،كتحديد مكان وقوف القافلة ، حيث من عادة مجتمع الغوريلا الترحال البطئ في الغابة بطريقة دائرية للأكل والتكاثر ، لكي تعطى فرصة النمو للأشجار السابقة للعودة لها مرة أخرى ، وهنا يأتي دور الرئيس أو القائد في تحديد المكان بمشاورة الآخرين وخاصة الإناث منهم ، لأنهم أعرف باحتياجات أبنائهن، وأيضا مشاورة القبائل الأخرى التي تعسكر في نفس المكان .
أما الأسود فتعيش في نظام متكافل ومتكاتف وقوي جداً ، ....يحتوي عادة على عدة إناث وأشبال صغار ،والأسد الكبير( القائد ) وذكور عدة يتبعـونه ( أولاده وإخوته السابقين)، والمسؤوليات موزعة على فريقين ، الإناث عادة تصطاد ليأكل الأبناء والذكور ، والأسدالرئيس يأكل فقط مما تصطاده زوجاته وبنات قبيلته ، أي لايأكل من صيد غيرهم ، سواءأسود أو ذئاب ، .... ومهمة الذكور الدفاع عن القبيلة ، ومن يريد الانضمام إليهم يقبل بهذا النظام وإذا رفض سوف يطرد ، وجميع ما ذكر يتم بالتشاور مع الأسود الذكوروتحدث بعض الأحيان معارضة من أحدهم وخاصة الذكور الكبار ، وهي عذر كي ينفصل عن القبيلة وتلحقه عادة أنثى واحدة يكّون معها قبيلة جديدة في عرين جديد ليس ببعيد .
أما النسور الكبيرة ، فهي تشبه طيور البحر لحد كبير في نظامها ، كالبجع والبط والطيور المهاجرة ، .....فجميعها تعيش في جماعات كبيرة ، ويتم عادة توزيع المهام الإدارية على مجموعات ، وكل مجموعة يرئسها واحد يتم أخذ منصبه عند موته أوتوماتيكيا ، في الطيران الجماعي والهجرة والأكل ، ومكان وضع البيض، وموسم الهجرة البعيد عبر المحيطات ، وحتى في أصعب الأوقات ، تجدها جميعاً تعطي الآخر الفرصة في التناوب والإحلال مكان بعضهم البعض في جميع المناصب .
وعلى سبيل الذكر وليس الحصر ، عند هجرة الطيور الموسمية يقسم السرب إلى عدة دفعات متعاقبة، كل دفعة لها رئيس في المقدمة ، وكل مجموعة تعطي المجموعة التالية فرصةالمرور أمامها أو بجانبها أو خلافها ، وتكّون كل دفعة الشكل سبعة المقلوبة فيطيرانها في الجو كرأس السهم الانسيابي ،... والسبب هو تقليل إرتداد الهواء الضارب للجناحين ( أي يصد كل واحد منها قدر من الهواء عن الذي بعده وبترك مسافة متساوية بينهم يصبح الهواء العارض المواجه للجناحين نسبة 10 % فيقل الجهد ولا يحتاج الطائر التزود بالماء والغذاء خلال الرحلة ، فيطير لمسافة خمسمائة ميل دون توقف ،ويكون في رأس الرقم سبعة القائد المناوب ، الذي يعطي الدور لغيره عندما يتعب أويسقط ويموت ، ويتأكد السرب من كون ضلعين الرقم سبعة متساوين في العدد والطول ، وفي أثناء الرحلة يبقى في الخلف طائر تقع عليه القرعة مسبقاً ، يكون دوره احتياطا ،فإذا تخلف أحدهم عن السلسلة هنا أو هناك حل محله ، وكل ماسبق يتم تنسيقه غريزياً .
أخيراً النحل والنمل ،المملكتان العظيمتان اللتان تمثلان أكبر وأتقن تنظيم إداري وسياسي حيواني...... فجميع القرارات تتم بالتشاور والتنظيم وعدم إقصاء الآخرين . وإذا غزتهم مملكة نحلبرية أخرى يتم إرسال سفير مشاورة ، حتى يتم الإتفاق على أستضافتهم أو إنسحاب الملكة !!
بعد اللف والدوران حول كلمة إقصاء وكيفية مخالفة الحيوانات لها وتطبيقهم مبدأ ( التقريب ) ،... لنتحدث الآن عن صاحب الخلافة في الأرض الإنسان المستعمر الأول ، الذي يحمل بين طيات جمجمته عقلا جباراً معقد التكوين .
لقد نال الإنسان القسط الأكبر في التكوين الاجتماعي على الأرض ، ونال الدروس الثقافية من الأنبياء والمصلحين الذي بعثوا من أجلها وهي إتمام مكارم الأخلاق التي بدورها تشذب وتهذب معنى ( الإعتراف بالآخرين ) لكي يكون عنصراً صالحاً في مجتمعه ، يعيش بسلام واحترام .
لكن حصل ما لم يحمد عقباه ، فقامت أمم على لغة الإقصاء والإبعاد ، و توارثته من جيل إلى آخر ، حيث مثل الإقصاء نزعة الشر من الأجداد ،وكيف قويت هذه الكلمة ، وأصبحت من القوة كالرحى ، حتى وقعت على جل الأثر ، والفتك بين الشعوب ، وخلق الفتن بين عناصرالمجتمع ، وحتى أوجدت حواجز بين أعضاءه ، فكبر الجدار حتى أمتد وطال إلى أن فصل بينأمم بعينها وحضارات بتاريخها وثقلها . فرأينا شعوباً حاضرة تقصى أخرى بائدة ،ومذاهب مستحدثة تقصي أخرى أصيلة وذات سيادة ، والسبب حب التملك والنزعة الشرسة التييخفيها الإنسان النرجسي .
هل الإقصاء المسبب الأول للحروب في العالم ؟
نعم فلو كان هناك تقريب لوجهات النظر والاعتراف بآراء الآخرين ، لما رفع سيف هنا أو هناك ، ولا كان هجوم دولة أومملكة على أخرى ، وهذا هو ديدن الجبابرة القدامى ((أخذ الحق بالقوة ومهما كانت النتيجة)) حتى ممالك الإخوان في أوروبا القديمة لم تسلم منها ، فتناحروا وتهالكوا وأهلكوا معهم شعوباً وأمم على أسباب تافهة،...... حتى وقف المجتمع الغربي بجميع مذاهبه ولغاته ، يأخذ من الماضي عبرة ومن الحاضر فكرة ، فتناقشوا بجدية، وخاصة في القرن الماضي واتفقوا على مسح كلمة ( إقصاء) من قاموسهم ودستورهم ، وركزوا على أول كلمة في ميثاق التعاون مع الناس ، وهي ( الإعتراف بالآخرين ) .
الإقصاء لغة قديمة عند العرب ...هل هذا صحيح؟
هناك نعرات عربية جاهلية قديمة توارثها العرب من أجدادهم حتى بعد دخولهم في الإسلام ، ومن أهمها إقصاء الغير ، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة ، ....حيث أورثوها للأجيال التي بعدهم ، حتى سببت لهم نخرا وصدعاً في العلاقات البشرية ، فتكبلوا الحروب والكوارث ، التي أتت أكلها الآن في القرن الحادي والعشرين ، وأستمرت وستستمر الحروب والمشاكل بين الشعوب العربية والمذاهب الإسلامية ولن تقف عند حد معين حتى يأخذوا جميعهم دورة كاملة في ثقافة الإعتراف بالآخرين .
قد يقول البعض إنك إنسان متشائم ، فقد بدأت الكلام وأسسته على محورالإقصاء وجعلت التقريب فرعاً في كلامك وطرحك ، وأقول لهذا السائل الكريم ، إني أردت التركيز على الحبة السوداء داخل الطحين الأبيض لكي يسهل علينا انتشالها ، ولانضيع وقتاً في تكرار الحديث .
كم تمنيت أن أرى أهل الأرض يعترفون بلغة الإعتراف بالآخرين وبآرائهم ، وأن يتعمقون في فن ثقافة الإعتراف بالآخرين ، والجلوس على طاولة القبول بالطرف الثاني ، وحتى لو كان خاطئاً أو شاذاُ، وهذا الكلام يندرج حتى داخل الأسرة ، وهي الأهم لأنها ثاني لبنة في المجتمع بعدالفرد ،... وكم أتمنى أن نغرس في أبناءنا حب ثقافة الإعتراف بالآخرين ، والله الذيلا إله إلا هو سوف يأتي عقد وجيل متفاهم يحل مشاكله ببساطة ، ويعترف بثقافة الأخر ، حتى يأتي التقريب إوتوماتيكياً ، فحتى الله سبحانه بمكانته وعظمته وهو الخالق والمالك لهذاالكون أعطى فرصة لأبليس ليعبر عن رأيه ولماذا لم يسجد لأبينا آدم الذي يختلف معه في الرأي .
المفضلات