إكمال الرسالة الأولى :
أعتقد والكل يتفق معي .. إن أي إنسان عادي ومن العوام .. وحتى إن لم يكن متعلماً .. وبغض النظر عن دينه أو معتقده .. ومن باب الإنسانية ومن باب الأخلاق .. لا يتوافق ولا يحتمل أن يعبس أي أنسان يحمل صفة الأدميين بوجهه أمام حيوان أعزكم الله أو طفل أو حتى أمام نفسه في المرآة ، فما بالك أن يتهم نبي وأي نبي خاتم الرسل وسيد المخلوقات والأنبياء من عالم الذر حتى الحشر ، ومن كان قاب قوسين أو أدنى من الملكوت السماوي ، وأمام من ، أمام رجل فقير و أعمى .
أي إن إنسان هذا اللي يحمل صفة العبس ويكون حاملاً للرسالة ، إنها تتناقض مع وصف الموصوف وعين ماهو معروف من الأخلاق ، فلو عينت كي اختبر الأرواح لتنظم إلي عالم آدم لما أخترت من يعبس فما بالك بمن سيكون نبياً ورسولاً ومصلحاً يهدي للتي هي أقوم ، فالإبتسامه مطلب أساسي لسمو الأخلاق والبشاشة أمر بديهي للباقة البشر وتحابهم .. فما بالك أن تصدر من معلم المعلمين وأستاذ المهذبين ، الذي وصل لمرتبة العلا والكمال خلقاً ومكاناً ، حتى توقف جبرائيل مطيعاً لأمر ربه ، وحتى أناخ البراق مكانه ، فلن يبرح من هنا سوا النبي العظيم فهو أجدر وأحق بالمثول في تلك الهيئة والمكانة المهيبة ، حتى أصبح قاب قوسين أو أدنى حتى بلغ سدرة المنتهى !! فحاشاه أن تصدر منه هذه التراهات و التلفيقات التي تخالف أبسط قوانين الأخلاق لدى البشر وغير البشر .
إنه رحمة ولب الرحمة ومصدر الرحمة بقول الباري لكل العالمين كافة ، بشراً كانوا أو دواب أو شجر أو مدر، فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمتاز بأمور لم توجد في غيره من الأنبياء وهو سيدهم .. لقد اصطفوا خلفه ليؤمهم في صلاة الأنبياء العظمى والوحيدة ، في ليلة أسري به إلي المسجد الأقصى ثم أعرج به إلى السماء .. كيف لبشر أن ينال تلك المنزلة الرفيعة .. فمضى رسول الله بأبي هو وأمي إلى منزلته العظيمة التي يغبطه بها كل العالمين من خلق السماوات و الأرضين من الأولين والآخرين.
هل يعقل أن من كان قاب قوسين أو أدني أن يعبس في وجه أعمى !!
العبس أو العبوس نقص والله لن يقرب ناقص إليه ليكون سيد خلقه وخاتم رسله !! .. وأنا وأبي وأمي وكل الناس .. لن يقبلوا بنبي معلم ناقص يعبس في وجه الناس .. إننا وبالفطرة نحتاج ونسأل ونطلب معلماً كاملاً نقياً تقياً صافياً تتجلى فيه كل سمات الأخلاق .. كي يكون أستاذاً لنا ومعلماً لنفوسنا .. كي ينير دروب حياتنا ويخرجنا من الظلمات إلى النور .. قال تعالى في محكم كتابه .. بسم الله الرحمن الرحيم : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (1) سورة إبراهيم
إنه الرحمة الحقة .. شجرة الرحمة التي تتجلى لكل الخلق كي يقطفوا من ثمارها .. الأمر بسيط ولايحتاج إلى تعقيد في الشرح .. النبي صلى الله عليه وآله بعث كي نبتسم أمام الناس وتكون البشاشة عنوان لنا .. فقد روي عنه إنه قال : ( النظر في وجه المؤمن عبادة ) المؤمن البشوش والمؤمن الودود .. فالابتسامة عزيزي والكلمة الطيبة هي من عناوين الرحمة والشفقة والمحبة كي يسود العالم السلام والحب .. قال تعالى : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء} (24) سورة إبراهيم
الآية الأولى :
لإكمال رسالتي عن هذا العظيم .. فتحت القرآن الكريم كي أبحث عما قيل فيه .. فوقع بصري على الآية الكريمة بسم الله الرحمن الرحيم : {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم
لقد بدأت الآية بــ ( وإنك ) والإشارة هنا لمحمد صلى الله عليه وآله .. لقد خاطبه الله تشريفا لذاته .. وتعظيما لمقامهقائلا : وإنك لعلى خلق عظيم .. إن الله عز وجل لم يكتف بالإشارة إلى ُخلقه عليه وعلى آله الصلاة والسلام .. بل أكد على
هذه الأخلاق وأعطى مرتبتها مرتين باستعمال حرفي التوكيد ( إن ) و ( اللام في لعلى )ووصف هذه الأخلاق بالعـظمة والمجد وهي أعلى الرتب وأرقاها وفوق قمة سنامها بما يمكننا تسميته بالكمال المطلق و العـظمة المطلقة في التعظيم والتفخيم والتمجيد .
و اقتضت حكمة الله في إختيار ووصف العظمة في الأخلاق .. إرسال رسالة إلى أصحاب الألباب ونخبة العقال وذوي الإدراك .. كي تحتار وتختار وتدقق عقولهم بما تؤدي وتشير وتؤول إليه معاني الآية الكريمة .. فنستنتج من قول الباري :
( وإنك لعلى خلق عظيم ) إلى التفاته مهمة وهي :
استقصاء وإحتواء وإدراج وإدخال جميعأنواع الأخلاق بأصولها وفروعها تحت لفظ ( خلق ) أي في كيس وجعبة الخلق .. وخلق يفيد الكثرة والتعددية .. ولهذا يندرج تحت كل الخلق كل ما هو نبيل وجميل وسوي في السمو الإنساني والرقي الآدمي.
وبلوغ المنتهى والإستعلاء لوصف هذا الإنسان وماهية ومعدن ُخـلقه وإنصافاً لمكانته .. تم وضع مكانته في العلا والعلو أي الكلمة ( على ) والتي تفيد الاستعلاء والاستيلاء فوق مدرسة الأخلاق وإدراجها في دوحة خلق محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله .. وإنه ليس ذو ُخلق فقط .. بل يقف على كل الخلق ويسمو على كل الصفات النبيلة للأخلاق..أي أن مكانته وذروتها بلغت التربع على قمة جبل الأخلاق وأصبح الإنسان الوحيد الكامل والمؤهل كي يكون الخاتم للأنبياء المعلمين السابقين في مدرسة الأخلاق الحميدة .
لذلك جعـل الله جل وعلا الأنبياء في مكان الصفوة من بني الإنسان وجعلهم معلمين وأرسلهم للبشر .. وجعل لكل نبي مكانة ودرجة .. وميز بعضهم على بعض قال تعالى : {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } (21) سورة الإسراء
ورفع منزلة سادتهم وأسماهم بأولي العزم وهم خمسة .. إبراهيم ونوح وموسى وعيسى وآخرهم محمد عليهم وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام .. هم المعلمين النخبة وأسياد البشر كافة لمدرسة الأخلاق الإنسانية .. وجعل مكانة خاتمتهم سيداً لهم وقائدهم وقدوتهم .. هو كما قال العالم البريطاني المسلم خوجة كمال الدين:
( محمد المثلالأعلى للأنبياء )
فخاتم الأنبياء يجب أن تتوفر فيه مواصفات ومميزات خاصة تظهره في صورة الكمال الإنساني كي يكون بئراً تسقى الآدميين العطاشى بدلو الأخلاق الذي لا ينضب .. هذا الخاتم و النبي المميز يجب أن تتوفر فيه صفات الإنسان الكامل بكل الإنسانية العالمية وصاحب الكمال الذي يصلح عقله وفكره وعطاءه لكل مكان وزمان .. حتى تجلت تلك الصفات في شخص واحد وهو النبي محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم .. الذي أختصه الله بخصائص الخاتم الذي بعث من أجل إتمام الأخلاق الإنسانية الحقة .. والله يعلم إنه الأجدر والأصلح لتلك المهمة .. فقال في محكم كتابه .. بسم الله الرحمن الرحيم : {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (40) سورة الأحزاب
الآية الثانية :
وهي التي تركت بصمة في نفسي .. هي قول الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } (107) سورة الأنبياء
فالخالق أولى بخلقه وأعلم بحاجتهم .. والله سبحانه شمل رحمة محمد للعالمين جميعاً .. فلم يحدد كون العالمين كل البشر الذي يمشون على الأرض .. أم العالمين كل حيوان يدب على الأرض مهما كبر أو صغر حجمه .
فبمجرد قراءتي للآية الكريمة أتذكر تلك القصة التي قرأتها في مجلة قديمة وأنا أنتظر دوري عند الحلاق والتي تقول .. إن يوما كان الرسول صلى الله عليه وآله يفترش الأرض والحجر وسادة له .. فلما أصبح فجراً وأراد القيام ، وإذا بقطة نائمة على كمه الشريف .. فأراد النهوض لأداء الصلاة .. فما كان منه بأبي هو وأمي وبمشاهدة من حوله من الصحابة وأولهم أبا الحسين عليه السلام ، إلا أن أخذ خنجراً وقطع طرف كم ثوبه كي لا يوقـظ القطة ويعكر صفو نومها .
ولن أنسى قصة اليهودي التي يعرفها القاصي قبل الداني ، الذي يرمي الأوساخ والقاذورات يوميا عند باب النبي صلى الله عليه وآله .. فلما غادر النبي يوما بيته لم يجد أوساخاً .. فتعجب ! فقال هناك خطب ما قد حدث لجاري اليهودي ... فذهب لزيارته وطرق باب بيته حتى ردت زوجته فسألها النبي العظيم عنه وقالت إن زوجها مريض .. فأستأذن النبي الدخول وزار اليهودي وأطمأن على صحته .. حتى بكى اليهودي ولم يتمالك نفسه ورمى برأسه في أحضان النبي وأعتنق الإسلام الرحيم .
قال تعالى : {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (128) سورة التوبة
التعبير هنا يقول : من أنفسكم .. أي منكم أيها البشر من لحمكم وليس ملك أو جان .. أي منكم ياعرب ومنكم ياقريش ومنكم يابني هاشم .. إنسان من عمق الصحراء .. بسيط ومتواضع .. يفترش الأرض ويأكل مع الفقراء قرص الشعير .. لكن سيد للأخلاق ، وأتى ليتمم مكارم الأخلاق كي تسعدوا وتهنئوا.. فهو منكم ورحمة لكم .. ماذا تريدون أكثر من هكذا كرم من الخالق رحمة للمخلوق .
إن تعريف الرحمة كبير جداً بحيث لايتسع لمعانيه الكلامية ، ولكن لايمنع أن نضرب عدة أمثلة التي لا حصر لها .. مثلاً هل المراد بالرحمة طريق الهداية التي رسمها الله وبعث من أجل نشرها الأنبياء وأتمها بنبيه محمد صلى الله عليه وآله كي تكتمل نفوسنا لننعم بحياتنا الدنيوية المؤقتة ونسعد بآخرتنا الدائمة ..
أم الرحمة تهيئة الأجواء حيث تتناغم وراحة البشر مع بعضهم البعض .. أو ربما الإنسان والحيوان معاً .. أو الحيوان مع الحيوان .. وهل هذا التعبير صحيح ويتقبله العقل .
سنضرب الآن بعض الدروس عن الرحمة الإنسانية والتي أمتاز وأختص بها الدين الإسلامي عن غيره من باقي الأديان .
لنأخذ مثلاً الإهتمام بالجار .. وخاصة اليتامى منهم .. حيث حرص أن لا تصل رائحة الطعام إليهم وهم جياع .. وكذلك الإهتمام بالوالدين وإن منزلتها بعد عبادة الخالق .. وتحريم حتى التأفف أمامهما أو النظر في عيونهما او تقدم الخطى قبلهما .. وبغض النظر عند ديانتهما وعرقهما .
مثال آخر .. فلقد أجاز الإسلام وكباقي الأديان السماوية ذبح بعض البهائم لأكل لحومها والاستفادة من باقي فضلاتها .. لكن قنن طريقة الذبح ووقتها ووضعها .. مثلاً أن تعطى الذبيحة ماءً قبل الذبح .. وأن تستقبل القبلة وأن تكون بآلة حادة كالسكين كي لا تتعذب البهيمة .. وفي موضع خاص .. وإن لاتكون البهيمة أمام مرآى إبنها أو أمها .. فهل لهذه الرحمة أثر نفس الإنسان والحيوان ؟
المفضلات