الرسالة الرابعة عشر :
آهات على الرصيف .... من الأدب الهجري:
كعادته صباح كل يوم ، ومع حركة طلبة المدارس وركوبهم الحافلات .... منتظراً وصول رفيق عمله وزميل دراسته ماهر، الذي يأخذه معه بسيارته مقابل المائة وعشرون ريالاً المخصومة من راتبه المتواضع آخر الشهر ، خرج فارس العريس الجديد حتى وقف لمسافة بضع خطوات عن الرصيف المجاور لمنزلهم ، ومن خلفه رجل عجوز متزر يفترش الأرض علىورق كرتون ، وآثار الزمن تلاحظها في تضاريس وجهه ، أما عينا فارس فتركزان على الطريق المزدحم بالمارة ، حتى يخرج من جيبه سيجارة ، ويشعلها مع التفكير بسؤال دائماً يردده مع نفسه :
هل يوجد حل لحياتي الصعبة ؟
دعنا نلقي نظرة مبسطة على حياته ، ولنصعد بعيوننا إلي سطح منزلهم ، نعم ، إنه مكان يقضي فيه فارس وزوجته شهر العسل ، مع إبنة خالته التي تكبره سناً ، ذات الخمسة وعشرون ربيعاً ، والمكان عبارة عن غرفة في الدور الثالث ، فوق السطح ، ويحتاج لبلوغها ، المشي في العراء من السلم حتى يصل إلي باب الزوجية .
في أيام سابقة ، كانت تلك الغرفة حضيرة حمام متنوعة ، مكان لهواية أبيه ، حتى تحولت إلي قفص ذهبي !
إنها فكرة بدائية لشاب في مقتبل عمره لم يجد حلاً سوى ، بصف الطابوق صفاً على البلاط ، وأغلاق كل الثقوب والعيوب التي بها ، ، ترميم سقفها الحديدي ، ثم تغطية سقفها بألواح حديدية مع بعض الديكور المتواضع ، حتى غدا فارس جاهزاً لتكوين أسرة جديدة ، مع قريبته القنوعة .
كل يوم ، وعند دخول وقت العشاء ، تقف مريم ، المنتظرة قطار الزواج ، أمام غرفة أخيها ، في جوف ذاك السطح المظلم ، وهي ترتعد خائفة ، فأذا لم يفتح الباب ، تضع عشاء العرسان أرضاً وتطرق الباب وتنصرف، حتى تخرج أيادي من داخل الغرفة لتأخذ العشاء وإعادته فارغاً آخر الليل .... هكذاحتى أنقضت ثلاثة أسابيع.
أخفت الحياة أبتسامتها المؤقتة ، وظهرت على حقيقتها ، و بانت أنيابها ، وخاصة بعد إنتهاء شهر التدليلوربما أخطأت وقلت بدأ التذليل مع غطرسة الحياة وجهادها ، بعد أن تقاسمت زوجته أعمال المنزل مع أمه وأخواته يوميا لخميس والجمعة بالذات ، وإن هذا يتصادم مع تحضير ومذاكرة الدروس والملازم باقي أيامالأسبوع لإنهاء الفصل الثاني من الكلية ، إنها تعلم ، إن :
- هذا سيكون مصيرها .
- وهذا الذي اختارته بإقتناع وفضلته على البقاء وحيدة بين جدران غرفتها .
- هي من أتخذ القرار حتى وإن كان يعيل أهله!
- إنه أهون عليها من البقاء في بيت أهلها بدون زوج وصديقاتها تزوجن ورزقن بأطفال ،هكذا قالت لأمها وأبيها.
تهكم يليه تحلطم من قبل أخواته وأمه أمام زوجته ، ماعدا أخته الوسطى التي تميل قليلاً مع كفتها ، وتقف في صفها عند النقاشات الحادة ، وخاصة المتعلقة بمصاريف البيت ، وتقسيم راتب زوجها ومكافأتها الشهرية ، والنتيجة تساعدها في مراجعة مادة الرياضيات للمرحلة الثانوية .
(كِله منك يا يبه ) تتبعها زفرة مع الدخان المملوءة بالآهات ( آه آه آه)،هكذا رددها فارس ، وهو يدخن سيجارته ذات الماركة الرخيصة ، وهو يحملق في نفسه من خلال زجاج السيارة الواقفة أمامه ، متأكداً من حسن مظهره ، ولقصة شعرهالمسترسل المملوئة بالجل .
يتمتم بإلقاء اللوم على أبيه الذي تركهم وسكن بعيداً عنهم ، بعد أن باع البيت الكبير ، المملوء ذكريات سعيدة ومرحة ،أيام الدلال والجــخ ، حتى لحق نزواته المتهورة ، وتزوج بزوجة صغيرة بعمر أبنته ، مستوردة من أرض عربية ، حتى أخذت بأم فارس العزة بالإثم عن التنازل ، وأن لاترضى بضرة عليها وهي بنت فلان صاحبة الشخصية المرموقة في الفريج ، فخرجت من كنف أبيه ، وسكنت في بيت بالإيجار ، وقالت بأعلى صوتها لزوجها :
( فارس بـيّصرِف علينا وأحنا مو محتاجين لك ، روح لزوجتك الشقرة )
أيامها، فارس المسكين لم يكمل دراسته ، بسبب انشغال أبيه وإهمال أمه ، فتوظف في شركة أهلية لا تحمل أي صفة ضمان مستقبلي ، فنفذ دعوة أمه وتحديها أمام أبيه ، وأنفصلوا عن كنفه ، وأعتمدوا بعد الله على فارس الضحية ، الكبش الأسود .
مرت الأيام بسرعة ، أعباء وأثقال الحياة تزداد ، وتقع فوق رأسه كالصخر ، فارس الأصغر والوحيد من الذكور بين البنات ، نال الترتيب الخامس بين أخواته السبع ، ........إثنتان تزوجن وواحدة مطلقة ، والباقي فضلن الانتظار في محطة قطار الزواج تتقدمهن أخته الكبرى ، فقد كان زواج الأب الأول متأخراً ، وفارق السن كبير بينه وبين أم عياله .
لقد سقطت هيبة الأب بعد نكسته المالية ، وزاد من الطين بلة ، هجرته أولاده ، فقد فشل في تجارته ، بسبب استهتاره بالمال وتعدد سفراته ، وبذخه الزائد في الملذات ، وخاصة النساء ، حتى أصبح آخر أيامه مع زوجته الثانية ، في شقة بالإيجار ، بعد أن كان يملك فيلا كبيرة بسائقين وثلاث خادمات ، تاركاً أم عياله دون سؤال ، لقد كان محباً للمظاهر والمفاخرة ، وولائمه اللامنتهية في مزرعته ، حتى صرف كلأموال بيته ومزرعته على أصدقاء غرائزه ، سيارته الفارهة ،وكماليات المنزل التي لا حاجة لها ، الكل ينهش من لحمه دون أن يشعر ، حتى السائقين ، يسرقونه ، وهو يتـقهقه .
مع آخر نفس للسيجارة ، فجأة ! ، أنقطع حبل أفكار أخينا فارس ،بصوت بوق سيارة ماهر المزعج ، وهو يقف أمامه و يناديه ( يا الله تعال ) فركب فارس بجانبه بعد إلقاء السلام ومن غير نفس ، فسأله ماهر:
شفيك ، ظايق خلقك من الصبح ؟
فأجابه فارس : شتبي يعني أقولك ، الدنيا أجيها من هنا تروح هناك .
ففهم ماهر أن الشغلة كالعادة ، مشكلة الفلوس والظروف مع العايلة .
فارس ساكت ويخاطب نفسه بحرارة : ( إيه شعليك يا ماهر ، العب من حلالنا ، أبوك عامل في مكتب أبوي ، وسواه مدير، ولا هده الين خلص فلوسه ، وهو اللي طلع منها سالم ، وطاح أبوي ولاحد سمى عليه ، ... أه ، سيارة وشقة بلاش قاعد فيها ، وإلى الحين ما تزوجت ، ورابط بنت عمك ومخليها بيت أهلها مع إنك مواعد أختي بالزواج يالـ...!! ........آخ يمه على هالحال، كله منك يايـبه .
في العودة آخر النهار ، وبعد العصر تحديداً ، تقف سيارة ماهر أمام منزل فارس ، وبالضبط أمام نفس العجوز القابع فوق الرصيف ،......يخرج فارس من السيارة ، ليدخل منزلهم ، فتخرج يد من باب بيتهم ، لتشير لفارس بحركة هو يفهمها ،فيعود فارس أدراجه ، إلى ذاك الرصيف ، فيركع ليحمل الرجل العجوز المترهل والخفيف الوزن من تحت رقبته ورجليه ، فيقبله فارس في خده ، ... ويهم العجوز بإخراج زفرات وونات ......... آه آه آه وهو يحدق في وجه فارس ، وعيونه تغرغـربالدموع الحائرة ، فيدخل فارس بيتهم منادياً :
( يالله يا يمه حطي الغدا ، آنا جبت أبويا )
تنويه :
القصة من جعبة المؤلف ، لكن من صميم الواقع الذي نعيشه ، ولربما تواردت أو تشابهت الأسماء صدفة مع بعض القصص الحقيقية .





رد مع اقتباس
المفضلات