الرسالة التاسعة عشر :
الملح ... الماس المجهول
أعتقد إنك سمعت عن أسطورة طريق الحرير ، لكن هل تصدق إنها حقيقية ، نعم هي كذلك ، وهي تتحدث عن قافلة الحرير ( ذاك القماش الناعم المستخرج من دودة القز ) والتي تجوب منطقة آسيا مروراً بإيران ، وكيف يقطع التجار ألاف الكيلومترات من بلد إلى بلد بمختلف أعراقهم وظروفهم ومناخهم ، ومواجهة الصعاب ، كقطاع الطرق والأمراض الوبائية ، حتى يتم تسليم الحرير إلى أوروبا ، لغزله ولبسه من قبل الطبقة الأرستقراطية وتصل القافلة إلي وجهتها ، إلا بنفوق عدد من حراس القافلة وقادتها وخدامها ،أما لكبر سنهم أو مرضهم أو بقتلهم ، حتى يتنفس الباقون الصعداء عند وصولهم وجهتهم بسلام.
لكن هل سمعتم عن طريق الملح ؟
في معظم جبال آٍسيا وخاصة جبال أفغانستان يتم استخراج الملح من مناجم الملح المختبئة خلف الصخور ، والتي تستهلك طاقة الرجال وهممهم ، فيتم تحميل البغال والحمير بعدة أطنان من صخور الملح ، وتجهيز القافلة للسفر وبدء المسير، فتهب الرياح الباردة والقاسية في وجوه القافلة وبغالها ، مما يتسبب بتأخير البضاعة ولربما فقد جزء منها ، وبعد شهور عدة تصل البضاعة الثقيلة جداً والرخيصة الثمن إلى وجهتها في وسط غرب آسيا ووسط شمال آسيا ، حيث لا توجد بحار قريبة ولا صخور ملحية في الجوار ، فينتظر السماسرة بشغف رؤية شبح القافلة من بعيد ليتم بيعه في الحراج بسعر بخس وصل على جثث الإنسان !
لماذا الإصرار على إيصال الملح في هذه الظروف ؟
هل الملح مهم لهذه الدرجة ؟
يعرف الجميع إن الملح يتكون من عنصرين ( الصوديوم + الكلور ) ويأخذ في شكله البلوري عادة اللون الأبيض أو الوردي ، وهو متوفر في يد كل إنسان في الوجود .
لكن ما أهميته ؟
ومتى عرف الإنسان الملح ؟
وماهي فوائده واعتقادات البشر وعلاقاتها بالملح ؟
أتفق المؤرخون على أن الإنسان عرف الملح قبل ألفي عام من ميلاد المسيح عليه السلام ويرجح بعضهم أن شيث أبن أدم عليه السلام أٍستخدم الملح في طعامه ، بعدما أكتشف أن العود الحجري الذي كان يخلط به الطعام جعل الطبخ ألذ وأطيب ، وذلك لملوحته .
وأقدم مصنع معروف للملح ظهر في الصين حول بحيرة يونشينغ، كانت سبباً لنشوب الحروب والصراعات بين القبائل ، ويعود أقدم سجل مكتوب عن إنتاج للملح رسمياً وتجارياً إلى نحو 800 سنة قبل الميلاد وكان بنظام المقايضة بالسلع مع دول الجوار ، ويشير إلى أن إنتاجه بدأ قبل ذلك التاريخ بألف عام، وعرف الصينيون صناعة السمك المقدد واللحم المملح والمخللات الحارة وحفظ الأطعمة بالتمليح.
وتطورت مع الزمن صناعة الملح وتجارته، ونشأت حوله سلسلة معقدة من الحروب والثروات والاحتكارات والصراعات، فقد دار جدل طويل في الصين حول احتكار الدولة للملح والضرائب التي تفرض على تجارته وإنتاجه.
وفي مصر استخدم الفراعنة الملح مع الثوم والطحالب الخاصة في التحنيط وحفظ الجثث ، لتظل متماسكة محتفظة بجلودها ولحمها لنحو خمسة آلاف سنة، وعرف المصريون أيضا الأطعمة المملحة والخضار الممزوجة بالملح والصلصة المخلوطة بالثوم والبصل قبل غيرهم من الحضارات .
كذلك أستخدم سكان الأسكيموا وشمال ألاسكا قبل اكتشاف أمريكا ، الملح وخلطه مع الثلج في صنع المنازل ليكون أقوى كالصلب ، ومتماسكاً في الربيع ومنعا من ذوبانه .
و الفينيقيون كان لهم دور قوي بخبراتهم التجارية في انتشار الملح ، فقد ساهموا في نقل الملح عبر أنحاء العالم ومقايضته بسلع وخدمات أخرى، وعرفت قوافل نقل الملح باستخدام الجمال والسفن ، وقد كانوا يستخدمونه مع قشور الرمان للصباغة ، ودباغة الجلود ، وكذلك وضعه فوق أقراص الجبن منعاً من العفن .
أما بالنسبة للعرب القدامى فقد استخدموا الملح في حفظ اللحوم والأسماك ونقلها من بحر الروم والخليج إلى داخل الجزيرة العربية ، وكانوا أيضا يدبغون الجلود بالملح ، ويضعونه في أساسات تنور النار للطبخ لحفظ الحرارة من التسرب من الموقد .
وكان العرب يؤمنون أن الملح جيد في طرد الحسد والعين ، ولجلب البركة ، ولكن لابد من اقتناء الملح مع التمر في السفر وسير القوافل والحجاج ، وأن الأرواح الشريرة والشياطين يخافون من الملح ، لذلك كانوا يضعونه عند الأبواب والمنافذ ، وقد انتشرت هذه العادة بين العرب حتى وصلت إلى يومنا هذا .
ذكر الرحالة العربي ابن بطوطة أنه زار مدينة تاغرا الأفريقية في العام 1352 المبنية من الملح بما في ذلك مسجدها، وتحدث المؤرخ اليوناني بليني عن مناجم لصخور الملح والبيوت المشيدة من تلك المادة، وبعض المدن القائمة اليوم تستمد تسميتها من الملح مثل"سالتزبورغ"، وكانت ليفربول أهم مدينة بريطانية بعد لندن قد أقيمت أساسا عام 1207 على الملح الذي كان يعرف في جميع أنحاء العالم باسم ملح ليفربول.
ويعرف الشعوب الذين عملوا في الملح برجال السالت ( Salt flesh ) ، وقد وصفهم المؤرخون الإغريق والرومان وأرسطو أيضا بأنهم رجال أقوياء وضخام، ويلبسون أقمشة زاهية الألوان، ويضيفون الغرباء، ومن سوء الطالع أن يوصف شعب ما على يد أعدائه.
وكان الملح جزءا من الإمبراطورية الرومانية القديمة ، واستولى الرومان على مدن الملح وورش السالتيين والفينيقيين لإنتاج الملح، وطوروا وسائل حفظ الخضار والزيتون بالملح، وامتلأت شواطئ المتوسط بورش الملح، وورثها العرب والمسلمون بعد انسحاب البيزنطيين وتراجعه ، وكان البحارة الرومان الحربيين ، يقدمون سفنهم بسفينة خاصة بنقل الملح للتمويه ، وقد تحولت الطرق التي شقها الرومان في أنحاء الإمبراطورية لتأمين نقل الملح إلى مراكز تجارية وثقافية كحيفا والإسكندرية وتونس وقبرص وصقلية ومالطة وأزمير وطنجة وملجة ، وكانت السيطرة على مراكز الملح والزيتون في مرحلة الإقطاع بعد انهيار روما ، تعني السيطرة على الاقتصاد والنفوذ المالي .
وفي الثورة الفرنسية المشهورة عام 1789 هاجم الثوار الفرنسيون الملك لويس السادس عشر وزوجته ألملكة أنطوانيت ، وألغت الثورة فورا ضريبة الملح "الغابيل" دون اهتمام بإيجاد مصدر دخل بديل لتمويل خزينة الدولة، وأطلق سراح جميع المسجونين بسبب ضريبة الملح وأعفي المطلوبون والمطاردون بسببها.
( ثورة الملح )
أما في القارة الهندية ، فلا يخفى عليكم الثورة الهندية العارمة التي اجتاحت المستعمر البريطاني والمشهورة ( بثورة الملح التي قادها ماهاتما غاندي ) ، فلم يكن الاقتصاد الهندي سوى وسيلة لإغناء بريطانيا العظمى، وأديرت الصناعة في الهند لصالح رجال الأعمال الإنجليز في ميدلاند، وأدير الملح الهندي لصالح شيشاير.
كانت الهند قبل أن يصلها البريطانيون تتمتع بملح يصلها بوفرة وبأسعار معقولة، ولكن بريطانيا احتكرت صناعة الملح في الهند، ومنعت الملح الهندي الرخيص من المنافسة، واشتعلت انتفاضات متواصلة بسبب هذه السياسات الاستعمارية الشاذة ، بل إن الحكومة البريطانية منعت حتى كشط الملح عن سطح التربة تحت طائلة عقوبات قاسية ، ومنعت شعوب كانت تعتمد بأكملها على صناعة الملح والاتجار به من مواصلة عملها الذي اعتادت عليه آلاف السنين .
وفي أواخر العشرينيات قاد غاندي ثورة الملح، بتحويل هذه المادة إلى قضية وطنية يتركز حولها الاستقلال، وبدأ غاندي مع 78 من معاونيه مسيرة على الأقدام لمسافة 520 كيلومترا للوصول إلى البحر لمواجهة القانون البريطاني واستخراج الملح، وعندما وصل إلى البحر بعد مسيرة 25 يوما كان برفقته الآلاف من كل طبقات الهنود وفئاتهم وطوائفهم، واستأنف شعب أوريسا صناعة الملح التي منع منها برغم ارتباطه بها آلاف السنين، وسمحت الإدارة البريطانية بعد حملة اعتقالات واحتجاجات واسعة لسكان الشواطئ بالتقاط الملح لاستخدامهم الخاص، ولكن حصل الهنود في النهاية على استقلالهم الكامل عام 1947.
جعل الله سبحانه ماء العين مالحاً كما البحر ، ليمنع نمو البكتيريا الضارة وليضمن عدم تعفنه ،وجعل الحياة آمنة وممكنه بدون ملوثات ميكروبية ، والماء بالملح أفضل للملاحة ، وقسم الأرض بثلثي ماء من البحار ، لإكمال عملية دوران الماء في الطبيعة ، وجعل تكوين جسم الإنسان بخليط من الصلصال والماء والملح .
إنني أعجز عن إنهاء موضوع غني كعالم الملح ، فهو يأتي بعد الماء في أهميته ، وكالأحجار الكريمة في شكله ومنظره ، وكالتراب في زهد سعره وكالهواء في توفره وانتشاره ،لذا يجب أن نشكر الله إنه خلق لنا شئ كالملح ، ويبقى في نظري أغلى وأثمن من أي ألماس ، فهو حجراً كريماً غنياً مفيداً ليس للبشر فقط ، وإنما لكل المخلوقات ، وليس خارج أجسادهم ، بل في أعماقهم ، فلقد ذكره الإمام علي عليه السلام في نصيحته : إنه من بدأ يومه بملح فقد أذهب الله عنه سبعين نوع من البلاء ، ولم يحدد بأبي هو وأمي أي نوع من البلاء ، أهو خارج أو داخل الجسم .
في كلامنا قد نزيد مدحاً وإثراءً في وجود أحدهم بمحافلنا بوصفهم كالملح في الطعام ، وننسى أناساً في مجتمعاتنا أغنياء بعقولهم ، يعيشون خلف ذاكرة عقولنا ، فأصبحوا كالملح ، فعـلهم عظيم لكن ذكرهم بلا قيمة مهمشين كأخياش الملح .
المفضلات