وأنا مستلقي على سرير محدودب ، زارني شعور من الخوف ، فقد كانت أول مرة أحصل فيها على رخصة ، وأول مرة سأرى دمي ينساب أمامي ، كانت أرجلي مرتفعة لأعلى قليلاً ، ويدي اليسرى مطروحة أمام الممرض ، أخذت جولة بعيني في الغرفة الكبيرة نانظراً لمن حولي ، وإذا بي أشاهد من بعيد مجسم كامل لهيكل الإنسان العظمي ، صراحة أصابتني رعشة وهول من المنظر .
الهيكل كان بمقاس الرجل الطبيعي تقريباً، وكان متدلياً شنقاً بسلسلة حديدية ، كان لدي شعور تجاه ذاك الهيكل ، إنه مسكين ، لا يمتلك أي شئ ، سوى السلسلة الموجودة حول عنقه.
أحسست بضعفه ، وإنكسار شخصيته أمام الجميع ، أحسست إنه يشتكي لي ،لكن عجز منه بالكلام ، أمضيت دقائق وأنا أحدق فيه وهو يبادلني نفس الشعور على ماأعتقد .
سألت الممرض الموجود في الغرفة إستعباطاً كما يقول الإخوة المصريين :
هل هذا الهيكل حقيقي أم صناعي ؟
أجاب : إنه صناعي بالتأكيد .
سألته : وهل هناك فرق يجعلك تقول بالتأكيد .
أجاب : نعم ، أنظر بالأسفل ، تجد الماركة وأسم الدولة المصنعة .
بدوري ، سكت قليلاً ، وعاودت سؤاله مرة أخرى :
أنا سمعت إن مستشفيات الدول الفقيرة يستعملون هياكل حقيقية لأنها أرخص وأدق.
لم يردعلي الممرض ، فأنصرف.
بعد قليل حضر أخصائي عربي آخر ، ودخل داخل الغرفة ،ووقف بجانبي ، فسألته نفس السؤال ، فقاطعني بسؤال بصوت حاد ، بدل الإجابة :
وماذا يهمك في الموضوع : هل أنت باحث في علم الإنسان (Humanities)؟؟
أجبت: لا، أنا باحث هاوي في تاريخ وجغرافية الإنسان (Human Geography)
قال لي ما الفرق ( أنت بتهزر ) بلهجته ؟
أجبته : لا أنا مأهزر كما تقول !!
أنا أتكلم بجد : أنت تعلم في ما يجري في داخل تجويف الإنسان ، أما أنا فأحاول أن أعلم الحقب التي مرت على الإنسان ، أي أنت تعرف ما بداخله ( فيزيائياً )، وأنا أحاول أن أعرفما أحاط به سابقاً وما يحيط به الآن وما سيحيط به مستقبلاً من حياة وأزمات نفسية (سيكولوجيا ً) .
قال لي وبصوت منخفض وبلهجته ( أسمع ، بقولك شئ بس توعدني ماتقولش لحد ) ، الهيكل ده اللي واقف أصادك ، إنسان حقيقي جايبنوه من آسياً أوأفريقياً ، بس هو مختوم بختم الدولة المصدرة ، وإحنا بنقول للناس اللي يزعجونا زيك إنه صناعي فهمت دي الوقتي .
سألته : بس طيب آخر سؤال : هل هو رجل أم امرأة؟
قال لي : وأيش رايك أنت ؟
قلت له : رجل
قال : كيف عرفت .
قلت : أنظرإلى حجم حوضه ، لقد درسنا في العلوم إن حوض المرأة أكبر من حوض الرجل ، وأعتقد إنحجمه عادي ، إذن هو رجل .
فأبتسم وقال صح ، بدوري ابتسمت له وشكرته ،فأنصرف وتركني .
الدم ما زال يخرج من جسمي ويعبئ تلك الحقيبة ، جلست أفكر وأنظرللهيكل الذي أمامي ، ودموعي شبه واقفة تريد التحرر من بين جفني ، فخاطبت نفسي :
هل تصدق إن هذا الرجل الذي أمامك كان يوماً يهز الأرض في مشيه .
وإلى مسافة بعيدة من هنا في أحدى الدول ، كان جالساً مع أولاده يحتسي الشاي
أو ربما يحرث فيمزرعتهأو يأكل ويصلي ، أو كان لاعب كرة ، أو صياد ، أو كان يلاعب أولادهالصغار ، أو يدرس أو ربما كان جندي أو رجل مرور أو مدير مدرسة أو حارس أو عاملمصنع ...و.و.و الكثير من الأمور التي تخيلتها وكان يقوم بها في وطنه .
والآن هو واقف أمامي كالصنم دون حراك ، لا يفقه ما أقول له ، ولايدافع عن نفسه .
ما الفرق بيني وبينه ؟
يعني أنا مكسو بشوية لحم وجلد فقط !!
إذا لماذا أنا نافخ ريشي ، ومنزعج على قريبي بسبب شئ تافه ؟
طيب لماذا نحن بني البشر مغرورين ومتسلحين بهذا الجسم الرخيص الهزيل ، إنها مجموعة من العظام البالية، مغطاة بلحم فقط ؟
لماذا أبطش وأقتل وأشرد غيري في الأرض ؟
لماذا أغضب الناس ، لماذا أسرق ، لماذا أرتكب المعاصي الدنيئة ؟
لماذا أتحول إلى وحش كاسر أحقر من الحيوان ؟
ولماذا أكون حقيراً ووضيعا في أدنى درجات الإنسانية .
إذاً كلنا هياكل عظمية وكلنا سنصبح يوماً كهذا الواقف أمامي ، أو ربما هو أوفر حظاً منا ، فنحن سنوضع في التراب ، وستنخر اللعازة عظامنا وتأكلها ، أما هذا الواقف أمامي ، مازال يحتفظ بهيكله !
إذا الذي يميزن يفقط هو ( عقلي ) ، ويميز عقلي ( مكارم أخلاقي ) ، وهي ما يبقى من ذكري بعد رحيلي ، وهذا هو السبب الذي من أجله بعث سيد البشر والمعلم الأول للإنسانية صلى الله عليه وآله ( إتمام مكارم الأخلاق).
وفجأة انتبهت بأحدهم يناديني قم ، أنهض خلاص انتهى التبرع ، فوقفت ، حينها أحسست بتعب ودوخة بسيطة ، وخاصة بعدما شربت العصير .
وأنا خارج ، مررت بالهيكل العظمي ، ومددت له يدي أسلم عليه ، إستسلاماً مني وإعترافاً بضعـفي ، فلمحت ثقباً كبيراً في كفه اليمنى وأنا أتفحصه ...... اندهشت !!
سألت الممرض الذي حاورته من قبل ، وكان واقفاً من بعيد ، فأجاب بلهجته عن سبب الثقببكل بساطة :
طبيعي يابني ، معظم الهايكل إللي بتجي لينا من مخلفات الحروبفي آسيا والهند ، تلاقيه رصاصة خارمة إيده ، وتانية خارمة صدره ، وده السبب في موته ووجوده هنا أصادك .
لم أبح بكلمة ، حتى سقطت من عيني الدمعة ، فتحركت وخرجت من الغرفة ، وتوجهت إلي إبن عمي كي اصالحه ، وتذكرت في طريقي ، أنني نسيت ولم آخذ ورقة التبرع بالدم .
المفضلات