الرسالة التاسعة :
الأب في نظر الشعوب
كل داب في الأرض لديه أب ، كل إنسان لديه أب ( بإستثناء آدم وحواء عليهما السلام ) ، كل حيوان لديه أب ، كل مخلوق لديه أب ، فهناك أب الدم وأب الروح ، وهما متشابهان في التسمية ومختلفان البتة في المعنى ، فلأب الدم الفضل في الإمتداد الوجودي والخلقي ، أما أب الروح فله فضل الإمتداد الروحي والفكري ، ولكن :
من هو الأهم ؟
أقصد لو ُخيرنا بزيادة عدد أحدهما في مجتمع ما . على من سيقع الأختيار ؟
سئل الأسكندر الأكبر يوماً ، وهو في طريق سفره عن فضل أبيه وفضل معلمه عليه .
فأجاب :
( أبي خـَلـَقَ مني كومة لحم ، أما معلمي فخلق مني إنــســـان) !
نفهم من قصد الأسكندر إن أبائنا عندما أوجدونا كانوا في حالة نشوة ولذة فقط ،ولم يفكروا حينها ولم يدركوا ما ذا سيبذروا نفي أرحام أمهاتنا ( نساءكم حرث لكم ) ، ذكر، أنثى ، طفل مشوه ، لا إنجاب مثلاً ، ( أي دون قصد ومعرفة).
أما معلمونا ( وعلى وجه العموم ) عندما كانوا يلقون علينا العلوم والمعارف ، يقصدون خلق إنسان منا بمعنى الكلمة ،إنسان يحمل كل معاني الأخلاق والإحترام أولاً ، والقراءة والكتابة ثانياً ، كما جاءت بها كل تعاليم المعلمين السماويين ، أي كل الأنبياء والحكماء والصالحين وعلى رأسهم محمد وآهل بيته عليهم السلام ، فقد أوجد فيهم الباري ( الكمال التعليمي ) و ( الكمال الـُخـلقي ) ،.....كي ُتنقل إلي باقي البشر بأمانة وإتقان ، وإن كان البعض يتهم هؤلاء الأنبياء بعدم أهليتهم وخروجهم من دائرة العصمة الكمالية ، لتتصادم مع عـقولنا ، ، ( فـفاقد الشئ لايعطيه) .
كثير من الشعوب والملل تبنت أباً روحيا ً، وخاصة الأب الديني ،الذي يتولى قيادة أمته نحو النجاح وبر الأمان ، حتى في الحيوانات ، تجد هناك قيادة لأب روحي كملك أو ملكة ، كما في مملكة الأسود والقرود والنمل والنحل ، وكل الحيوانات الإجتماعية .
قال عمر الخيام :
(أبي لم يأخذ رأيّي عندما أوجدني)
هل كل أب لحمي ( أب الدم ) يستطيع أن يمثل دور الأب الروحي ؟
في اعتقادي القاصر، القليل القلة من الآباء أجادوا دمج الأبوة اللحمية بالأبوة الروحية ، وأقل من ممن سبق ذكرهم أجادوا التحول من أبوة اللحم إلى أبوة الفكر خلال مسيرة حياتهم الأسرية ، فنحن لا ننكر دور الآباء المهم في تأمين لقمة العيش وحماية أبنائهم ، وتعرضهم للشمس طول النهار(مشاق الحياة وعراقيلها ) تأكل رؤوسهم ولحومهم قبل رؤسائهم ( أرباب العمل).
آخر النهار يصلون منهكين إلى بيوتهم ...... يريدون نسيان لفـظ كلمتي التعب والمشقة خارجاً ..يتمنون دخول ملاذهم الرحب بثوب جديد من الراحة ... العش والكنف الذي سيستقبلهم بحنان القلب والمعدة . ( القصد هنا بحنان القلب عناية الزوجة بزوجها وإحترام الأولاد لأبيهم ) ، و( المعدة بتعبأتها بالطعام).
معظم الآباء يلقون بدور الأبوة الفكرية والروحية خلف ظهورهم ، ويتركونه لخارج المنزل ،سواء المدرسة ( المعلم الخاص في العصور السابقة ) أو تعليم الشارع و الأصدقاء في عصرنا !!
وفي النهاية سيحصد الآباء ما زرعته أيدي المعلمين والأصحاب من غرس في نفوس أبنائهم، من غير دور للآباء في تحديد هوية ونوعية معلمي أبنائهم .
فالبعض منا حرم من وجود الأب اللحمي في صغره ، وتـلـقائياً ُحرم من حنانه وعطفه ،حيث يعتبر وجود أب بركة في المنزل ، حتى لو كان صامتاً قابعاً في غرفة ظلماء.
والبعض ُحرم من حنان أبيه مع وجوده في حياته، وإن عدمه كوجوده ! ،ويتمنى لو يخرج أباه من دائرة أسرته ..........والبعض يرى إن أباه عرقلة في حياته، وإنه السبب في فشله في هذه الدنيا .........والبعض الآخر يعتبر أن وجود أباه فقط لوجوده اللحمي ، ويتمنى لو لم يخلق أباه ولم يوجد بعده للعناء .
أما المحظوظون ، وهم في مكان غبطة الجميع ، قد رزقوا بآباء نخبة وقدوة ، تراهم يقلدون الأنبياء حتى في كلامهم ، يراعون أبنائهم من هفو اللسان وغبارالأيام ،يقفون كي لا تقع الشمس على رؤوس أبنائهم ، يكرمونهم حناناً قبل الإشباع ،وتربية قبل معلميهم ، يتركونهم أرض خصبة لتلقي علوم الأخلاق والمعرفة ، ولغرس يانعيسهل على المعلم العناية به وتشذيبه .
في كيلتا الحالتين السابقتين ، يهم ويهتم الشارع المقدس بأولويات إحترام الأب مهما كانت سلبياته وأخطاءه ، ويعتبر عقوق الأب من الكبائر، وأهم شي يقف عنده ،عدم إطاعتهم في معصية الله ، قال تعالى بسم الله الرحمن الرحيم : وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8) سورةالعنكبوت
عند العرب ، إذا مات الأب يرث الإبن الأكبرفقط ودون إخوته حاجيات والدهم الخاصة ، كالخاتم والحصان والبغل والخنجر والمصحف وكرسيه و عصاه التي يتكأ عليها ، ....ولو تأملنا في طريقة وكيفية إحترام الأب عند بعض الملل و الشعوب ،لوقفنا وقفة إجلال وتعظيم لتلك الشعوب ، ولحسدناهم على عاداتهم التي تنم عن عمق الإحترام وقداسة منزلة الأب .
ففي البلدان العربية كسورياً ، ُيقبل كلأبناء الأسرة ( مشمولين بأزواج بناتهم وزوجات أبنائهم يد الأب أول النهار وآخرالنهار ، بعد الرجوع من الخارج ، وعند أهل نجران ، لا يمكن النظر في وجهالأب ، ولا يمكن الأكل معه في إناء واحد ، ولا يمكن السير أمامه في الطريق أوالدخول قبله من أي باب !
وفي السودان ، إذا مات الأب تؤخذ عمامته البيضاء الطويلة ليكـفن بجزء منها ، والباقي يتعمم به الإبن الأكبر فقط .
أما في بعض قرى المغرب يشرب الأبن الأكبر ثم الذي يليه من كأس الأب ماءً قبل التوجه لأعمالهم ،وفي جمهورية بنين في الجنوب الغربي من أفريقيا، لا يخرج أحد من البيت حتى يقف الأب عند باب المنزل ليعطي الأذن بالإنصراف.
وفي منغوليا يأخذ الأبن حفنة من تراب قبر الأب بعد موته ليضعها فيبيته .
وعند الهندوس ، يقبل الأبن وزوجته قدم أبيهبالنزول إلي الأسفل ومد يده اليمنى لملامسة رأس أبهام رجل أبيه اليمني وتقبيلها .
ولن ننسى البانيا الإسلامية ، عندهم يطرق الألبان غرفة أبيهم لتقبيل رأسه قبل أداءصلاة الفجر وقبل إفطار و سحور أيام رمضان ، وأماقبائل بلاد السند ، فمن يقتل أبا أحد سيقتل أباه في الحال ، وفي أفريقيا القديمة الوثنية، إذ مات الأب يأكله أبناءه كي تنزل بركاته في دم الأحفاد على حدزعمهم .
في الختام نتمنى من كل من يستطيع تكحيل عينيه برؤية أبيه كل صباح ، أن يغتنم الفرصة ، وأن لا يعقه وأن لا يطأ على ظله ،وأن يعرف ( إن عقاب عقوق الوالدين ينزل مباشرة من الخالق دون تأخير أو بداء ) وكما تفعل لأبيك ستلاقيهيوماً من أبنائك ، وأن نتذكر إن الإمام السجاد ( علي بن الحسين عليهما السلام ) كان لا يأكل مع والديه في إناء واحد ، كي لا يأكل شئ وقع عليه ناظري أحدهما .
فهنيئا لكل من لديه أب يحمل صفتي الأب اللحمي والأب والروحي ، وهنيئاً لأبناءهم وذراريهم هكذا أب .





رد مع اقتباس

المفضلات