فانبرى اثنا عشر ألف بطل قائلين: إنّهم حاضرون جميعاً، ولن يعودوا حتّى بلوغ الهدف. فنزلت عن المنبر، وانفتح الباب الصغير في البوابة الكبيرة، وخرج ألف فارس مدجج بالسلاح، وأُعطي زعيمهم راية، وقيل لهم: عليكم عند كلّ مرتفع ومنخفض أن ترفعوا أصواتكم بنداء لبّيك وسعديك، وكأنّكم تسمعون نداء (هل من ناصر) الذي صدر عن الإمامين الغريبين الوحيدين، لكي تبقى الدماء في فورانها.
وطلبتُ من رئيس الملائكة أن يرسل مائة ملك لمرافقة هذا الفوج، فلم يجد بدّاً من الموافقة على ذلك.
وهكذا راحت الأفواج تترى يصاحب كلاًّ منها مائةٌ من الملائكة، حتّى اكتملنا ستّة أفواج فتحرّكنا، على أن يلحق بنا فوج سابع مع باقي الملائكة. وحملت بيدي علماً كتب عليه: ( نصرٌ مِنَ اللهِ وَفتْحٌ قَرِيبٌ ) وقد شهرنا سيوفنا بأيدينا، ونحن ننادي على كلّ مرتفع ومنخفض بأعلى أصواتنا: لبيك! فتختلط بصهيل الخيل ووقع أرجل الفرسان، فكانت جنبات الوادي وسفوح الجبال تهتزّ من ذلك.
مُحاججة مع رئيس الملائكة
كنت أنا ورئيس الملائكة نتحرّك جنباً إلى جنب على رأس الجيش الكثير الجلبة والضجيج، ولاحظت أنّ حضرة الرئيس مقطّب الجبين عابس ومطأطئ الرأس وغارق في التفكير، ويهمّ أحياناً أن يقول شيئاً، ولكنّه يبتلعه ويلزم السكوت. وعلى الرغم من أنّي كنت أعرف ما يجول بخاطره، فقد سألته:«ماذا بك ؟».
قال: «إنّني خائف من سلوككم الثائر هذا، الذي لم يحدث مثله في هذا العالم الذي يسوده الأمان دائماً، وأخشى أن ينزل غضب الربّ عليكم فتصيبنا النار التي ستصيبكم».
فقلت: « ولماذا تصيبكم نارنا ؟ ».
قال: « لأنّنا لم نَنْهَكم عن أعمالكم القبيحة هذه ».
قلت: « إذا كانت أعمالنا قبيحة فلماذا لم تَنهونا عنها ؟ ».
قال: « لأنّنا أُمرنا أن نوصلكم إلى حدود برهوت ».
قلت: « ونحن أيضاً ذاهبون معكم، فما وجه القبح في أعمالنا ؟ ».
قال: « تجييشكم هذه الجيوش، وإثارتكم الفتنة ».
قلت: « هل أمركم الله أن تأخذونا بصورة أُخرى ؟ ».
قال: « لا، بل قال خذوهم ».
قلت: « الأخذ إذن مطلق، ولا يقتصر على صورة معينة، راجلين أو راكبين، مسلّحين أو غير مسلّحين... فمهما تكن هيئتنا، فعليكم أن تأخذونا بأمر من الله، وما في هذا من قبيح، لأنّ الله لا يأمر بالقبيح. وعليه فلو أنّكم نهيتمونا عن أمر الله لكنتم قد خالفتم ما أنزل الله، ولغضب الله عليكم، ولهذا فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على من يعرف المعروف والمنكر ويميّز بينهما، ولكنّك ما تزال لا تعرف الحسن والسيّئ ولا تميّز بينهما، فكيف كنت تستطيع أن تنهانا عن أمر وتأمرنا بأمر آخر ؟ ».
ورأيت أنّه نزل كثيراً عن عظمته السابقة وصغر، وقال: « الحمد لله على أنّي لم أفتح فمي بنهي ».
قلت: « إنّ غيرتي تحدوني إلى أن أحملك على التصاغر أكثر من هذا. إنّ قولك: بأنّ حادثة كهذه لم تحدث من قبل في هذا العالم، يعني أنّك تقيس المستقبل على الماضي، وأنّه يجب أن لا يحدث أيّ جديد. إنّ أوّل من قاس هو إبليس الذي قال: إنّ ما صُنع من نار يكون منيراً، وإن ما صنع من تراب يكون مظلماً لا نور فيه. وأنت تعلم أنّ قياس إبليس هذا كان باطلاً، ولتعنّته هذا طُرد من حضرة الله. وقياسك هذا باطل أيضاً لأنّ الله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأنٍ.
المفضلات