الجزء العاشر،،
* *
الأعمدة الخمسة وعمود الولاية
جلسنا على السرير في تلك الخيمة ذات الأعمدة الخمسة، وكان العمود الأوسط من الذهب الخالص مرصّعاً بالأحجار الكريمة وأطول من الأعمدة الأُخرى. ولكي اختبر ذكاء الحوريّة سألتها: « لِمَ كان لهذه الخيمة خمسة أعمدة ؟ ».
فقالت: « جميع الخيم هنا فيها خمسة أعمدة، فقد بني الأسلام على خمس: ( الصلاة، والصوم، والزكاة، والحجّ، والولاية، ولم ينادَ بشيءٍ كما نودي بالولاية ).
وهذا العمود الأوسط هو عمود الولاية، فهو الأكبر، وعليه يعتمد ثقل الخيمة.
قلت: « ظننت أنّ كلاًّ منها باسم واحد من آل الرسول صلّى الله عليه وآله ».
قالت: « أُولئك هم الأُصول، وما يوجد هنا هو الظلّ لتلك الأنوار. إنّ كلّ عوالم الوجود وكلّ ما فيها، متشابه وعلى هيئة واحدة، وإنّما الاختلاف يكون من حيث الشدّة والضعف، الأصل والفرع، والنور والشعاع. وإنّ للإنسان طريقه إلى كلّ العوالم، وهو قادر على أن يصل إلى جميع المراتب، وأن يكون الرأس في سلسلة العوالم كلّها، وأن يصبح مظهر اسم الله وجامع وجوده وخليفته. ولكن الإنسان الذي وُجدت فيه كلّ هذه القوّة والقدرة بالفطرة لم يستطع أن يعرف نفسه إنّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ .
قلت: « أين تعلّمتِ كلّ هذه المعارف التي تتحدّثين بها ؟ ».
قالت: « لقد تعلّمت في مدينة العلم، وهذه الجبال الخضر ذوات الرَّوح والريحان هي من أدنى مصاديقها. قال رسول الله صلّى الله عليه وآله أبو فاطمة: أنا مدينة العلم وعليّ بابها. لقد تربيّت على يد فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله، فهي كأبيها مدينة الحكمة والعصمة، وعليّ بابها، وهي الليلة المباركة، وهي ليلة القدر، وهي خير من ألف شهر، وهي التي نزلت عليها علوم القرآن، وهي التي « فِيهَا يُفرَقُ كُلُّ أمْرٍ حَكيم » وهي الشجرة الزيتونة ... لاَ شَرْقِيَّةٍ ولاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلى نُور... .
وهي التي: تَنَزّل الملائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإذْنِ رَبِّهِم مِنْ كُلِّ أمْرٍ.
وهذه رسالة فاطمة الزهراء عليها السّلام التي أوصلها إليّ الهادي، وقد جاء فيها: انّ أحد أولادي سيرد عليك، فأكرميه فهو صاحبك. فالظاهر أنّي مزرعتك. وأنت كنت قد اُنضجت إلى حدِّ الكمال.
أفرأيْتُمْ ما تَحْرثُونَ * أأنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أْم نَحْنُ الزّارِعُونَ ؟! .
وإنّي لأحمد الله الذي لا حمد لسواه، ولا يرجع إلاّ إليه. وآخر دعواهم أن الحمد لله ربِّ العالمين ».
ثمّ حضر الطعام والشراب أنواعاً، فأكلنا، وشربنا، واتكأنا على الوسائد، وقلت: «يبدو أنّك لست ساكنة هنا».
قالت: « نعم، لقد جئت لاستقبالك لتستريح هنا قليلاً، وهذه الخيمة والأثاث الذي تراه أتيت به أنا، كما أنّ جميع هذه الخيام هي للمستقبلين الذين جاؤوا لاستقبال الوافدين عليهم، وكلّ هذا المكان بما فيه من بساتين ورياحين وأشجار وأثمار هي وقف على الوافدين. وعند رحيلك أعود أنا إلى موطني ».
قلت: « أحبّ أن أتمشّى في هذه البساتين وبين الخيام، لأتمتّع بهذه المناظر الخلاّبة ولأعرف شيئاً عن هذا المكان، ولعلّي ألتقي أحد المعارف ».
قالت: « إنّك حرّ هنا، وكلّ ما تريده حاضر. ولكن لابدّ عند دخول خيمة من الاستئذان والسلام. وأنا عند مجيئي إلى هنا رأيت خيمة ابنتك الكبرى، وبالنظر لمعرفتي السابقة بك دخلت عليها واتّخذتها صديقة لي. فإذا شئت أن تذهب إلى هناك فسوف أُرافقك ».
قلت: « طبعاً ».. وقمنا معا.
لقاء مع ابنتي في العالم الآخر
عند باب الخيمة سلّمت، فعرفتْ ابنتي صوتي، فخرجتْ مع خدمها هارعة. وبعد تبادل الأسئلة وتقديم الحمد لله تعالى على نعمه، دخلنا الخيمة وجلسنا على سُرُر مرصّعة بالمجوهرات، هي وخدمها في صفّ، وأنا ومن معي في صفّ.
مُتَّكِئينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ .
فالتقابل خير من التجانب.
سألتها: « كيف جَرَت عليكِ الأُمور في هذه الرحلة ؟ ».
فقالت: « لقد رأيتُ بعض المصاعب في المنزل الأوّل، وفي أرض الحسد عانيت من بعض الضغوط. ولعلّ معظم المسافرين يعانون من ذلك، بل أشدّ منه. وفي بعض المنازل فهمتُ أنّ نجاتي كانت بسببك، فدعوت لك واستنزلت عليك الرحمة من الله، حتّى أنّه عندما حان وقت سفر أُختي إلى هذا العالم، كما قرب موعد سفرك، دعوت الله أن يشفيك من مرضك لكي لا تُحرَم والدتي وأخواتي الأُخريات من الاستظلال بظلّك، ولئلاّ ينالهم شيء من الذلّ ».
سألتها: « ما أخباركِ عن أُختك التي رحلت إلى هذا العالم ؟ ».
قالت: « رأيت أُختي هنا، وكانت أرفع منّي درجة في الجلال والعظمة، وعندما سألتها عن المشاقّ قالت بأنّها لم تر شيئاً من ذلك، وأنّها لم تأت راجلة، ولكنّها شاهدت أرض المسامحة أو بعضاً منها، وطوت الباقي بطيّ الأرض ».
قلت: « سبب ذلك هو أنّها رحلت إلى هذا العالم وعمرها ثماني عشرة سنة، فلم تجد متّسعاً من الوقت لتثقل نفسها بالأحمال والصعاب ».
واستغرقت في التفكير، تُرى ما النواقص التي كانت في وجودي وفي أحوالي وأعمالي بحيث إنّي تعرضت لتلك المصاعب التي نجوت منها الآن، مع أنّ أبنائي المسافرين في هذه المرحلة مرفّهون وفي خير حال!
بعد التمعّن والتفحّص الكامل في زوايا قلبي عثرت على بذرة هذه النبتة، وعرفت من أين تنبع، وإلى أين تصل.
كانت ابنتي صفيّة تتلوّى ألماً لكونها لا تعرف كيف تحلّ عقدة قلبي، وكانت تعجب كيف يكون في دار السرور موضع للحزن والتألّم.
المفضلات