على الرغم من الضعف الشديد الذي كنت أحسه في بدني، فإنّ سخريته تلك أثارت الدماء وجعلتها تغلي في عروقي، فرفعت صوتي وناديت: يا عليّ. وإذا بالمكائن قاذفات اللهب ـ التي كانت قد أحاطت بي وكادت تلتهمني بنيرانها ـ قد لاذت بالفرار في تسابق شديد أدّى إلى أن يصطدم بعضها ببعض فيتهاوى حطاماً، واندفع الأغبر يطلب الفرار، فصار تحت عجلات إحدى المكائن فتحطّمت عظامه واختلطت بلحمه ودمه: وَلاَ يَحيقُ المَكْرُ السَّيّئ إلاَّ بِأهْلِهِ .
فقلت: ما أعجب هذا‍! ولقد كان يسخر منّي.
فإنّا نسخرُ منكم كما تسخرون .
وشعرت بعطش شديد من أثر حرارة الجوّ، وتعفّن الهواء، ورائحة الكبريت المنتشرة. عندئذ رأيت الهادي يركض نحوي، وما أن وصل حتّى فتح الخرج الذي كان هدية من الإمام عليّ عليه السّلام وأخرج كوزاً من البلّور أشرق الفضاء من التماعه، وسقاني منه ماءً عذباً بارداً، فزال عطشي وما كنت أحسّ به من أوجاع في أعضاء بدني، وعاد الدم إلى وجهي وصفا باطني: إنّ الأبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأسٍ كَانَ مِزاجُهَا كَافُورَاً .
وأتينا فرأينا الجواد المسكين قد نَفَق، فحملتُ كيسي على ظهري، وحمل الهادي متاعنا، ومشينا في تلك الصحراء الواسعة الملتهبة. لقد كان الجوّ خانقاً من كثرة دخان المكائن والتعفّن، ورأيت فتحات تلك المكائن يخرج منها بشَرٌ من نار بهيئة مخيفة.
قال الهادي: « إنّ الحسّاد الذين أظهروا حسدهم للمؤمنين باليد واللسان يلقون في هذه المكائن حيث يُضغطون ضغطاً شديداً، بحيث كانت نيرانهم الباطنية تطغى على بشرتهم وكلّ أجسامهم، لأنّ الحسد كالنار المحرقة: « الحسد يأكل الإيمان، كما تأكل النار الحطب ».
وبالنظر لظلام الطريق، تقدّمني الهادي ومشيت وراءه.
قلت: « ربما نكون قد أخطأنا الطريق، إذ إنّنا باتّباعنا تلك الوصايا ما كان ينبغي أن يصيبنا مكروه ».
قال: « لم نخطئ الطريق، ولكنْ قليل من الناس لم يحسّ بالحسد قليلاً أو كثيراً في داخله، ولولا ما تفضّل به عليك أولياء الأُمور وسرور فاطمة الزهراء عليهم السّلام منك، فربّما لم يكن ما يصيبك من مكروه بأقلّ ممّا تراه يصيب هؤلاء أمامك. فكثير من هؤلاء المُبتلَون سوف ينجى عاجلاً أو آجلاً، ويكون من أهل الرحمة ».
ولمّا كان الجوّ حارّاً ونتناً، والكيس الذي حملته على ظهري ثقيلاً عليّ، ونظراً لسرعة سيرنا بهدف سرعة الخلاص من هذه الأرض الكثيرة البلاء، وهلعي من احتمال عدم موت الأغبر ولحاقه بي، فقد أخذ العرق مني كلّ مأخذ، وبدأت رائحته المنفّرة تنبعث من ملابسي، وعضلات ساقي كانت تؤلمني من شدّة التعب، ولكنّنا أخيراً اجتزنا تلك الأرض بكلّ عناء.
بدأ النسيم البارد يهبّ علينا، ولطف الجوّ، وظهرت الأراضي الخضراء وعيون المياه الجارية والأشجار السامقة في الوديان وعلى قمم الجبال، فاتخذنا مجلساً على حافة عين ماء لنستريح بعض الوقت.
قلت للهادي: « أحسبُ أنّ الأغبر قد هلك تحت عجلات المكائن ».
قال: « إنّه لا يموت، ولكنّه لن يصل إليك في هذه الأرض، لأننّا قد ابتعدنا كثيراً عن وادي برَهوت ، ولمّا لم يكن فيك شيء من التكبر والترفع، فإنّك لن ترى تلك الصحراء وتلك الابتلاءات. ولم يبق من الطريق إلاَّ القليل لنصل إلى عاصمة وادي السلام ».






على مشارف عاصمة وادي السلام


وكلّما أوغلنا في السير كانت تكثر المزارع والزهور والرياحين والأشجار المثمرة، إلى أن كثرت الجبال المخضرّة والبساتين اليانعة والشلالات الصافية الرائقة، ورأيت على قمم تلك الجبال وسفوحها خياماً كثيرة من الحرير الأبيض.
قال الهادي: ها قد وصلنا إلى ضواحي المدينة. والناس يسكنون في هذه الخيام ».
كانت أعمدة الخيام ومساميرها من الذهب والحبال من الفضّة، وبعد أن اجتزنا الخيام قليلاً، قال الهادي: «انتظر حتّى أذهب لأرى خيمتك».
فقلت: « ما اسم هذه الأرض الطيّبة ذات المناخ الجميل ؟! فبودّي أن أمكث هنا بضعة أيّام ».
فقال: « هذه أرض يُمن مقدّسة. ولا بدّ لك أن تبقى هنا بضعة أيّام ».
ثمّ أخرج ظرفاً من الكيس الذي أهدته فاطمة الزهراء عليها السّلام واتّجه نحو خيمة كانت على قمّة جبل، وكنت أُتابعه بنظري. وعندما وصل إلى الخيمة، وقرئ الكتاب، خرج من الفِتيان والفَتيات من الخيمة يركضون نحوي وتبعهم الهادي، وعند وصوله أخرج ظرفاً آخر من الخرج. وقال: « إذهب أنت مع هؤلاء إلى خيمتك لتستريح ريثما أذهب أنا إلى العاصمة لأُهيئ لك منزلاً وأعود ».
قلت: « كيف تتركني غريباً هنا ولا مؤنس لي ؟ ».
فقال: « إنّني أُتابع أُمورك. إنّك هنا في وطنك، ولسوف يكون لك في تلك الخيمة من يؤنسك: « حُورٌ مَقْصُوراتٌ في الخِيامِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ ولاَ جانٌ .
قال الهادي ذلك، وذهب.. فسرتُ مع أُولئك الخدم والحشم إلى الخيمة، فرأيت حورية جالسة على السرير، فنهضتْ تستقبلني. ودخل غلام مثل الشمس سطوعاً يحمل إبريقاً وطَسْتاً من الفضّة، وغسل رأسي ووجهي بماء كان فيه المسك وماء الورد. بعد ذلك نظرت إلى وجهي في المرآة، وإذا بي أفوق في الجمال والجلال تلك الحورية المعقودة لي في السجلّ الإلهي.


موعدكم مع الجزء العاشر


اختكم ... نور علي