فلعلّه بذهابك إليهم يذكرونك بإذن الله، وإذا كنت يائساً منهم فلا تيأس من الله، فمن لجّ ولج.
ولا تقنطوا من رحمة الله ، إنّ رحمة الله قريبٌ من المحسنين .
فذهبت فرأيت أنّهم لم تعد لهم تلك العزة التي كانوا يعيشون فيها في حياتي، فالباب مغلوق، وليس ثمّة من يتذكّرهم، وقد اختلّ أمر معيشتهم، ورأيت الأطفال شُعثاً قد ذبلت وجناتهم، فاحترق قلبي عليهم ودعوت الله أن يرحمهم ويرحمني. وتذكّرتْ زوجتي أيّام رفاهها، فأرسلت عليّ رحمة من الله.
عدت إلى الهادي فرأيت فرساً بسرج مرصّع ولجام من ذهب مربوطاً عند باب القصر، فسألت الهادي عمّن يكون صاحب الفرس، فتبسّم وقال:
« لقد أرسلتْه زوجتك، وهو رحمة الله التي طلبتْها لك، فجاءت بصورة جواد، وليس أفضل من ركوب الجياد لطيّ مراحل السفر هنا، فالراجل يجد كثيراً من المتاعب، على الأخصّ المنزل الأوّل من المسير. ثمّ إنّ دعاءك لهم قد أُجيب أيضاً، ولسوف يعيشون بعد اليوم في خير ورفاه. فانظر كم من الخير جاء من زيارتك لأهل بيتك، إنّهم في عالم الغفلة غالباً ما يغفلون عن مزايا التزاور، على الرغم من تأكيدات رسول الله صلّى الله عليه وآله الذي يقول: بأنّ الناس إذا مضت عليهم ثلاثة أيّام، ولم يسأل بعض عن حال بعض، فإنّ حبل الإخاء في الإيمان سوف ينقطع بينهم ».
حورية العمل الصالح
دخلنا الحجرة.. فإذا بحوريّة جالسة على السرير، وقد أضاءت الحجرة بنور وجهها، فأعشّتْ عيني. قال الهادي: « هذه زوجتك، جاءتك الليلة من وادي السلام »، ثمّ خرج من الحجرة.
فاتّجهتُ نحوها، فقامت واقفة احتراماً، وقبّلتْ يدي، وجلسنا جنباً لجنب.
قلت لها: « أخبريني عن حسبك ونسبك، وكيف أصبحت لي ؟ ».
قالت: « أتذكر المدرسة الفلانية التي كنت تَدرس فيها وأنت في عزّ شبابك، حيث أحييتَ سُنّةً في إحدى ليالي الجمعة هناك ؟ ».
قلت: « نعم ».
قالت: « لقد خلقني الله من ذلك العمل الصالح ».
فقلت: « زيديني من كلامك العذب، لأنّي أتلذّذ بكلامك الحلو إذ أسمعك تتحدّثين ».
فأرخَتْ أجفانها حياءً وخَفَراً، وابتسمت ابتسامةً أضاءت بالتماعها جنبات القصر، وقالت: « أنا لست وحدي مخلوقة من ثواب ذلك العمل الصالح، ففي جنّة الخُلد عدد كثير من الحور خُلِقن من أثره، وهنّ على قدر من الجمال الباهر بحيث إنّك في الوقت الحاضر غير قادر على تحمّل النظر إليهنّ إلاّ بعد وصولك إلى هناك، إلاّ أنّ أشعتهنّ تنعكس في وادي السلام، وهو فيض من أنوار جنّة الخلد. فتلك الحوريّات لا تستطيع تحمّل رؤيتهن الآن، أمّا أنا التي جئت لخدمتك فلست أكثر من انعكاس باهت لجمالهنّ وفي مرتبة دانية ».
فسألتها: « أتعلمين لماذا كان للمتعة كلّ هذه الخصائص وكانت محبوبة عند الله ؟».
قالت: « بالإضافة إلى ما فيها من المتعة الذاتية، فإنّها لولا تشريعها لارتكب الكثير من الناس جريمة الزنا، لعدم استطاعتهم الارتباط بالزواج الدائم، وكان لإلغائها مفاسد كثيرة، كما قال الإمام عليّ عليه السّلام:
« لولا منعها عمر لما زنى إلا شقي ». ومع ذلك فإنّ في هذا العمل يندرج ركنان من أركان الإيمان: الأوّل هو التولّي، والآخر هو التبرّي. فبغير ولاية عليّ بن أبي طالب وأولاده عليهم السّلام، والتبري من أعدائهم، لا يمكن أن يرى أحد وجه النجاة حتّى لو عبد عبادة الثقلين، وظلّ طول عمره قائم الليل صائم النهار، وقد وردت في هذا المضمون أحاديث قدسيّة كثيرة، كما تعلم أنت خيراً منّي ».
قلت : « تُرى في أيّة مدرسة تعلّمتِ كلّ هذا الكلام الذي يقطر حلاوة ؟ ».
قالت: « إنّ مصطلحاتكم التي تتعاطونها في الدنيا وتمسّككم بالألفاظ والأسماء لا وجود له هنا، فنحن جميعاً مواليد عوالم أُخرى لا مدرسة فيها ولا تعليم، لكنّنا بالولادة عارفون عالمون ».
المفضلات