الجــــزء الخامس
مع الأغبر من جديد
في الصباح تحرّكنا على الطريق الرئيس الذي كانت تحفّه من الجانبين الخضرة والزهور والرياحين والمياه الجارية، وكان الجوّ مشبعاً بالروائح العطرة إلى درجة لا توصف. كان الطريق كلّه على هذه الشاكلة حتّى خرجنا من حدود المدينة.
بعد ذلك بدأ الطريق يضيق وتزداد فيه العثرات، وهو يمرّ بوادٍ يتلوّى يميناً ويساراً، ولولا وجود المسافرين أمامنا لضللنا الطريق، فقد كانت هناك طرق فرعية على جهة اليسار. وفي أحد التواءات الطريق نحو اليسار التحق بنا غبُر الوجوه.
ما إن وقع نظري على الأغبر حتّى أحسست بشؤمه، واصطدمت قدمي بحجر فجُرحت، فرحت أعرج وأنا أسير بصعوبة بالغة، فتقدّمني المسافرون الآخرون وابتعدوا عنّي، وبقيت متخلّفاً عنهم.
كان الأغبر يمشي على يسار الطريق، حتّى وصلت إلى مفترق طريقين يتّجه أحدهما يساراً، فتحيّرت في أمري أيّ طريق أختار، عندئذ أسرع الأغبر إليّ وقال: « لماذا تقف متحيراً ؟ » وأشار إلى طريق اليسار، وقال: « هذا هو الطريق »، وتقدّم هو بضع خطوات فيه، ودعاني لكي أتبعه، ولكنّي خالفت وانطلقت في الطريق الآخر، وتَلَوتُ: « فإنّ الرشد في خلافهم ».
وراح الأغبر يصرّ علي متابعته، ولكنّي لم ألتفت إليه؛ لأني كنت قد جرّبته، ومن جرّب المجرَّب حلّت به الندامة.
عودة الهادي
لم أمش طويلاً حتّى انتهى ذلك الوادي بأرض مستوية خضراء، ولاح على البعد سواد البساتين وبيوت المنزل الثالث.
لقد وعدني الهادي أن نلتقي في هذا المنزل. ولمّا كنت قد أسرعت في سيري، فإنّ جهلاً قد تخلّف عنّي يائساً من اللحاق بي. وبعد برهة بلغت باب المدينة، وهناك التقيت الهادي، الذي كان في الحقيقة روحي، فتبادلنا السّلام والمصافحة والعناق، فأحسست بحياة جديدة في نفسي.
دخلنا القصر الذي كان قد أُعدّ لي، حيث كان قد جُمع فيه كلّ وسائل الراحة والرفاه. وبعد الاستراحة والأكل والشرب، سألني الهادي: « كيف مرّت عليك المنازل السابقة ؟ ».
فقلت: « الحمد لله على كلّ حال. كلّ المخاطر التي مرّت بي كانت بسبب جهل، وهو في الواقع من صنع يدي ولأنّك لم تكن معي، إذ لو كنت معي لما استطاع الأغبر أن يقوى عليّ. على كلّ حال، انتهت الرحلة بسلام، وقد أزالت عنّي رؤيتُك كلّ الهموم والآلام ».
قال: « إنّ عدم وجودي معك مكّنه من أن يمكر بك ويخدعك لإخراجك عن الطريق. ولكنّي إذا دللتك بعد الآن على طُرق مكرِه وخداعه، فإنّه سوف يلجأ إلى طرق ووسائل قوية أُخرى لإخراجك عن الطريق. وسوف يكون الطريق بعد هذا مليئاً بالمخاطر والآلام الشديدة التي قد تؤدي إلى الهلاك، إذ إنّ وجودي معك سوف يتمّ الحجّة عليك ولن تكون معذوراً. وكلّ وسائل دفاعك في هذه المرحلة سيكون عصاً وترساً، وهما قليلان. ولكن بما أنّ الليلة ليلة جمعة فيمكنك أن تذهب إلى أهل بيتك، فلعلّهم يتذكرونك بصنع الخيرات لك، فتزداد وسائل دفاعك في هذه المرحلة من الطريق ».
قلت: « إنّني يائس منهم، لأنّ أفكارهم لا تتجاوز حدود ذواتهم، خاصّة أنّ الأحياء سرعان ما ينسون أمواتهم ولا يعودون يذكرونهم. ففي الأُسبوع الأول الذي لم يكونوا قد نسوني فيه بعد، صنعوا ما صنعوا باسمي، مع أنّه كان لمنفعتهم، فكيف بهم الآن بعد أن نسوني كلّيّاً ؟! كلاّ، لا أمل لي فيهم ».
فقال:على أيّ حال، قُم إليهم، فلعلّهم يتذكرون قول النبيّ صلّى الله عليه وآله:«اذكروا أمواتكم بالخير»
المفضلات