تكملة الجزء الثاني
ضغط القبر

وبعد أن انتهى كلّ شيء طَوَيا السجلّ الخاصّ بي وطوّقا به رقبتي، ثمّ جمعا تلك العُلَب في كيس ووضعاه فوق رأسي، ثمّ أتَيا بقفص من الحديد الصلب كأنّه صنع خصّيصاً لجسمي، فوضعاني فيه وراحا يديران ما فيه من مقابض ولَوالِب، فأخذ القفص يضيق ويضيق، وأطبق عليّ إطباقاً أحسست معه أنّ نَفَسي يكاد ينقطع، ولم أستطع حتّى الصراخ، إلاّ أنّهما كانا ماضيَين في إدارة تلك المقابض واللوالب حتّى أصبح القفص الذي وسعني في البداية ضئيلاً صغيراً لا يتجاوز حجم أنبوبة صغيرة، فتحطّمت عظامي جميعاً، واعتُصر كلّ ما فيّ من دهن وخرج كالنفط الأغبر، وفقدت وعيي، ولم أعد أدرك شيئاً بعد ذلك
.
عدت إلى نفسي بعد برهة لأرى رأسي في حجر الهادي مرة اُخرى، فقلت له: «اعذرني على عدم تمكّني من النهوض».
لقد كانت عظامي محطّمة، وما زالت أنفاسي ثقيلة، وكلماتي متقطعة، وصوتي ضعيفاً، والدموع تجري على وجهي، وكنت كالعاتب على الهادي، إذ إنّ الضغط الأوّل كان في غيابه.
إلاّ أنّ الهادي أخذ يهوّن عليّ قائلاً: « إنّ ما رأيتَ كان من لوازم المرحلة الاُولى في هذا العالم، ولا يُستثنى منه أحد، لذلك فالبلية إذا عمّت هانت، إلاّ أنّ كلّ شيء قد انتهى، وأرجو أن لا يحدث لك مثل هذا بعد الآن. ثمّ إنّ آلام هذا العالم من مصلحتك، فهذا القفص الذي ظننته من الحديد الصلب إنّما هو خليط الأخلاق الذميمة عند الإنسان، يشتبك بعضها ببعض، وتحيط به في حياته المادّية، وتتحوّل في هذا العالم إلى هذا القفص الذي يمكن أن يكون مؤلّفاً من آلاف الخصال الذميمة، وإن يكن أصلها ثلاثة: الطمع، والأنانية، والحسد؛ فالأوّل قد أخرج آدم من الجنّة، والثاني هوى بإبليس إلى الحضيض، والثالث ألقى بقابيل في جهنّم، إلاّ أنّ لهذه الثلاثة آلاف الأغصان والأوراق، وهي تختلف من حيث الكمّ والكيف في الأشخاص اختلافاً كبيراً ».


حياة جديدة

كان الهادي أثناء حديثه العذب هذا يمرّ بيده على ظهري وجنبي وسائر أعضائي، فتعود العظام المحطّمة سليمة، وتُزايلني الآلام، وتسري فيّ حياة جديدة وقوّة متدفقة
.
لقد تطهّرتْ ملامحي وأعضائي من القَذَر والكدر، وغدت شفافة ساطعة، فأدركتُ أنّ ذلك الضغط كان نوعاً من التطهير لاستخراج ما في الانسان من قاذورات ونفايات وشرور، وهي التي بدت كالنفط الأغبر.
قال الهادي: « إنّ هذا الكيس كيسك، فافتحه لترى ما فيه ». ففتحته وإذا بعُلَب مختومة وقد كُتب على بعضها « زاد المنزل الفلاني »، وعلى بعضها الآخر « أخطار المنزل الفلاني وعقباته »، وكانت ثمّة أكياس تخصّ منازل معينة، فكان ينبغي فتحها في منازلها الخاصّة.
فسألت عن العُلب، فقال: « هي ساعات اللّيل والنهار من عمرك الذي صدرتْ فيه منك أعمال سيئة وحسنة، وبعد انتهاء ذلك الوقت ينغلق فمها كما ينغلق شطرا الصَّدَفة، ويبقى ذلك العمل فيها كما تبقى الحبّة في الصدفة، وتحتفظ بها، وتصبح كالعلبة المختومة ».
قلت: « وما هذا المعلّق برقبتي ؟ ».
فقال: « هذه صحيفة أعمالك، ففي آخر الأمر ويوم الحساب، لابدّ من تصفية حساب وارداتك ومصروفاتك، وهذا ليس وقته الآن: وكُلَّ إنسانٍ ألْزَمْنَاهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتابَاً يَلْقَاهُ مَنْشُورَاً



التزوّد للسفر

ثمّ قال: « أرى أنّ زادك للسفر قليل، فلابدّ من مكوثك هنا بضعة أسابيع، فلعلّ شيئاً يصل إليك من دار الغرور من أصحابك، فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: خير الزاد في السفر ما كَثُر. فعليَّ أن أذهب لاُهيّئ لك بطاقة سفر وجواز عبور من سلطان الدين والدنيا. فإذا لم يصل إليك شيء خلال الاُسبوع، فاذهب ليلة الجمعة إلى أهلك، فلعلّهم يتذكّرونك بطلب الرحمة والمغفرة
».
ذهب الهادي وبقيت انتظر، ولكنّي كنت في مكان حسن، فقد كنت في غرفة مفروشة بسجاجيد ملوّنة ذات نقوش جميلة.



الحقيقة المرّة

انتظرت حتّى ليلة الجمعة، فلم يحصل شيء، فذهبت حسب وصية الهادي إلى بيتي بهيئة طير، وجثمت على غصن شجرة أنظر إلى ما تفعله زوجتي وأبنائي وأقربائي وأصحابي، الذين كانوا اجتمعوا على حدّ قولهم ليصنعوا لي الخيرات، فطبخوا الحساء والرزّ، وأقاموا مجلس عزاء الحسين عليه السّلام وقرأوا الفواتح. ولكنّي رأيت أنّ أعمالهم لا تنفعني في شيء؛ لأنّ الهدف الحقيقي من أعمالهم كان إعلاء سمعتهم عند الناس، ولذلك فهُم لم يَدْعوا للطعام فقيراً واحداً، ولم يكن هدف المدعوّين سوى تناول الطعام وتصريف شؤونهم الخاصّة، فلا استرحام من أجلي، ولا دمعة على الحسين بن عليّ عليه السّلام، بل كانوا يمتعضون إذا ما حصل تأخير في تقديم الخدمات إليهم، ويشتمون الأموات والأحياء. وإذا ما ظهر شيء من الحزن والألم على أهل البيت والأقرباء، فقد كان على أنفسهم وليس عليّ، لكونهم ظلّوا بغير راعٍ بعدي، وليس لهم مَن يَعُولهم ويدبّر اُمورهم
.
وكانوا غارقين في شؤونهم الدنيوية بحيث إنّهم نَسُوني ونسوا أنّ هناك موتاً وداراً اُخرى تنتظرهم، وكأنّ الموت مصيري وحدي وليس لهم نصيب فيه، وكأنّ الله قد ظلمهم ـ والعياذ بالله ـ بموتي، فراحوا يتذمّرون ويحتجّون.
عدتُ إلى منزلي في المقابر بحال من اليأس والإحساس بالهوان، وكدت ألعن الأهل والأولاد، ولكنّ معرفة الحقيقة منعتني من ذلك، وقلت: « يكفيهم ما هم فيه ولا حاجة لمزيد ».
دخلت القبر من الثقب الذي كان فيه فوجدت الهادي جالساً وفي وسط الحجرة طبق من التفّاح، فسألته:
«
من أين هذا ؟ ».
فقال الهادي: « كان أحد الناس يمرّ بين القبور فوقف على قبرك وقرأ الفاتحة، وهذا ثوابها النقدي ».
فقلت في نفسي: « رحم الله هذا الإنسان الذي جاء في وقته ».





لاتنسوني بالدعاء


اختكم ... نور علي



موعدكم مع الجزء الثالث