النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: على الجسر ببغداد

مشاهدة المواضيع

  1. #2
    عضو ذهبي الصورة الرمزية لؤلؤة نجفية
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    عراق الحسين ع
    المشاركات
    1,151
    شكراً
    0
    تم شكره 0 مرة في 0 مشاركة
    معدل تقييم المستوى
    301

    رد: على الجسر ببغداد

    - العَودة إلى المدينة
    قصر الذهب تضيء أروقتَه القناديل.. انتصف الليل وخفّت حركة الحرّاس وخَبَت بعضُ المشاعل.. أوَت جواري القصر إلى مخادعهنّ الوثيرة. ( الخليفة ) يتقلب فوق سريره بين الوسائد.. تفوح من فمه رائحة الخمر.. من يراه في تلك اللحظات يحسبه نشواناً في خيالات الأحلام.. يقظته حلم لذيذ، ونومه أطياف ملوّنة.
    ولكن ما بال وجهه يبدو كدراً.. حاجباه ينعقدان.. ولونه مخطوف، ما تزال الكوابيس تطارده ؟! وفي كل مرّة كان يرى خزائن والده في القَبو ملأى بالجماجم.. جماجم أبناء العمومة. فجأة انتفض النائم مذعوراً.. استوى على فراشه وجبينُه يتصبب عرقاً.
    تلفّت حوالَيه قبل أن يتأكد من أنّه زعيم البلاد وخليفة العباد.. الذي تُجبى إليه الأموال من المشارق والمغارب..
    كانت حسناء الروم تغطّ في نوم عميق.. غادرَ ( الخليفة ) فراشه..
    وقف ( الخليفة ) في شرفة القصر يحدّق في الظلام.. وراح يردد بصوت شجيّ:
    ـ ( فهَل عسَيتُم إن تَولَّيتُم أن تُفسدوا في الأرضِ وتُقطِّعوا أرحامَكم... ).
    كان ( الربيع ين يونس ) ( وزير الخليفة ) غارقاً في الملاءات في تلك الليلة عندما هب على دويّ طرقات غليظة.. أدرك أنّهم رُسل ( الخليفة ). ارتدى ثيابه على عجل، وانطلق مع الحرّاس إلى قصر ( الذهب ).
    ألفى الخليفة يذرع البهو، ويردد بصوت جميل آية من كتاب الله، هتف ( الخليفة ).
    ـ علَيَّ بموسى بن جعفر..
    لم يكن هناك مجال للتأخير، فالأوامر واضحة وقويّة. انطلق الوزير يحفّه حرّاس غلاظ إلى سكّة المطبق. هناك وإلى يمين الطريق المؤدية إلى بوابة البصرة يقع السجن الرهيب.. زنازين صغيرة في أعماق الأرض تشبه القبور، حَفَرها ( المنصور ) لكل من يعارض ( سلطان الله في الأرض )! لكل من يعارض ( الخليفة )!
    لم تُفلح المشاعل في تبديد الظلمات المتراكمة في ( المطبق )، وبدا الهواء المرطوب داخل السجن خانقاً...
    اتّجه الوزير بخطىً واسعة إلى زنزانة يعرفها تماماً.. هنا ينزل الرجل المَدنيّ موسى بن جعفر...
    كان الرجل المدنيّ ما يزال ساجداً كثوبٍ مطروح.. وقف الوزير مشدوهاً.. ومرّت لحظات صمت رهيب... فهذا الرجل الحجازيّ لا يعبأ بمَن حوله وبما حوله.. لم يسمعه أحدٌ يتضجّر من ظُلمة السجن.. من الزنازين الخانقة.. من القيود القاسية.
    همس الوزير باحترام جمّ:
    ـ يا أبا الحسن!
    رفع الرجل الذي أطلّ على الأربعين رأسَه، تألقت عيناه تحت وهج المشاعل.. وبدا وجهه الأسمر مضيئاً بنور شفّاف..
    العينان تُخفيان حزناً عميقاً... والشفتان تكمن وراءهما ابتسامة ملائكية.. والأنف الأشمّ يعكس كبرياء الإنسان الذي لا يسجد لغير الله..
    شعر الوزير برهبة تستوعب وجوده.. وتساءل في نفسه عن سرّ هذا الرجل الغريب!
    نهض أبو الحسن.. ابتسم الوزير وهو يزفّ له بشرى الحرّية:
    ـ لقد استدعاني الخليفة وسمعتُه يقرأ آيةً من كتاب الله..
    الوجه الأسمر يطفح بالطمأنينة.. تنعكس فوق ملامحه عوالم السلام..
    فكّ الحارس قيداً يربط قدم السجين بصخرة قاسية..
    في بوابة المطبق الصخرية.. رأى الفتى رجلاً يطلّ على الأربعين، وجهه الأسمر يطفح طمأنينة.. وجسمه النحيف يشبه نخلة مَيساء..
    فاحت رائحة طيّبة.. لكأنّ الربيع قد حلّ في ( المطبق ) يمنح المقهورين الأمل.
    توقّف الرجل المدني وقد مرّ بالفتى.. تأمل في وجهه قليلاً وهمس:
    ـ زكاة السلطان الإحسان إلى الإخوان.
    غادر الرجل المدني ( المطبق )، لاحت له السماء وقد تناثرت آلاف النجوم كلالئ منثورة فوق عباءة كُحْليّةِ اللون.
    تمتم الرجل المدني وهو يتطلع إلى السماء المرصّعة بالنجوم.
    ـ يا مَن لا يعتدي على أهل مملكتِه!
    رجف قلب الوزير، تذكّر دسائسه للإطاحة بالوزير السابق ( يعقوب بن داود ) ، ها هو الآن في ظلمات المطبق سيبقى فيها حتّى ينتقل إلى ظلمات القبر.
    * * *
    نهض ( الخليفة ) احتفاءً بالرجل المدني.. عانقه وقبّله وأخذ بعَضُده ليجلسه إلى جانبه..
    مرّت لحظات صمت قطعها ( الخليفة ) قائلاً:
    ـ يا أبا الحسن.. رأيتُ جدَّك أمير المؤمنين عليّاً.. كان حزيناً، قال لي: يا محمد! (فهَل عسَيتُم إن تولّيتُم إنْ تُفسِدوا في الأرضِ وتُقطِّعُوا أرحامَكم)..
    ـ وها أنا أريد أن أصل رحمي.. أريد أن أردّك إلى أهلك.. ولكني أخشاك يا موسى.. أخشى أن تخرج علَيّ أو على أحد من ولدي!
    أجاب الرجل المدني:
    ـ واللهِ ما فعلتُ ذلك، ولا هو من شأني.
    أجاب ( الخليفة ) وقد خامره شعور بالارتياح:
    ـ صدقت.
    والتفت إلى وزيره وقال:
    ـ يا ربيع، أعطِه ثلاثة آلاف دينار، وردّه إلى أهله.
    انتهى اللقاء.. ونهض الرجل المدني يودّع القصر والسجن، ويودّع بغداد..
    في قلبه شوق للقاء الأحبّة.. هناك في مدينة جدّه أولاد وبنات ينتظرون.. يترقّبون عودة أبيهم...
    كانت النجوم تشتدّ سطوعاً في الهزيع الأخير من الليل، لم تَغفُ بغداد بعد.. فبعض الكُوى والنوافذ ما تزال تتدفق نوراً.. وتتناهى لمن يمرّ على بعض بيوتها أصوات موسيقى وغناء..
    كان الربيع يدرك تقلّبات ( الخليفة ).. يعرف نزواته ويسبر مدى حقده على أبناء عليّ.. لهذا هيأ لوازم السفر للرجل المدني الذي غادر أسوار بغداد في طريق العودة إلى أرض الوطن..
    إنّ من يريد العودة إلى المدينة عليه أن يطوي المسافات ويجتاز محطّات عديدة.. عليه أن يتجه أولاً إلى الفرات قريباً من قرى ( نينوى ) ثم يعبر النهر متّجهاً إلى ( العُذَيب ) ومنها إلى القادسية ثمّ إلى ( الرُّهَيمية ) ومنها إلى ( البيضة ) ومنها إلى عيون (شُراف) وإلى ( بطن العَقَبة ) فإلى ( زُبالة ). وفي زُبالة كان رجل من أهلها ينتظر.. يترقب يوماً يعود فيه الغريب إلى أهله..
    منذ الصباح و ( أبو خالد ) يترقّب المسافرين القادمين. لقد انصرمت الشهور والأيّام وما يزال أبو خالد يترقب يوماً يعود فيه ( أبو الحسن ).
    الشمس تسافر في بحر السماء.. وما يزال طريق القوافل مقفراً.. لا ناقة ولا جمل..
    أبو خالد ما يزال يترقب.. ينتظر.. الشمس تجنح نحو الغروب تبهت أشعتها.. وأصعب شيء أن ينتظر المرء، لَكأنّ الزمن يتوقف.. فتصبح الساعة عاماً واللحظات شهوراً.
    أصبح فؤاده خالياً.. بدأت الوساوس تطفو في قلبه كشياطين أيقظها الظلام.. وتساءل في نفسه: أيعود حقاً ؟! الشمس على وشك أن تغيب ولا شيء في الأفق..
    غاصت الشمس في الأُفق لم يبق منها سوى ثلمة ضئيلة.. اهتزّ إيمانه كشُجيرة تحرّكها ريحٌ باردة.. فجأة ظهرت في الأفق نقطة.. وشيئاً فشيئاً كانت تكبر وتكبر.. قفز قلبه.. استيقظ في قلبه فرح طفولي، لعلّ في القادمين موسى.. أجل إنه موسى.. يتقدم ( القطار ) يمتطي حيواناً ينحطّ عن خُيَلاء الخيل ويرتفع عن ذلة الحمير..
    هتف العائد:
    ـ يا أبا خالد!
    ـ لبّيك يا ابن رسول الله..
    قال ابن النبيّ صلّى الله عليه وآله وهو يحاور رجلاً اهتزَّ إيمانه قبل الغروب:
    ـ لا تشكّنّ.. وَدّ الشيطانُ أنّك شككت.
    تمتم أبو خالد.
    ـ الحمد لله الذي خلّصك منهم..
    همس ابن النبيّ صلّى الله عليه وآله وهو ينظر إلى الأفق البعيد.. إلى الجهة التي تهب منها ريح الشمال:
    ـ إنّ لي عودة لا أتخلّص منها.
    وأمضى العائد إلى ربوع وطنه ليلته قبل أن يستأنف رحلته إلى المدينة التي أضاءت الدنيا.
    التعديل الأخير تم بواسطة لؤلؤة نجفية ; 07-29-2008 الساعة 01:48 PM

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. حلى الجزر
    بواسطة حساسه بزياده في المنتدى مالذ وطاب في فن الاطباق
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 10-13-2009, 04:03 AM
  2. سورة الحشر
    بواسطة ابو طارق في المنتدى المنتدى الإسلامي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 01-24-2009, 07:07 AM
  3. تأمل مكتبة بيت الحكمة ببغداد
    بواسطة أحلى واحد في المنتدى المنتدى العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-20-2008, 02:15 PM
  4. فوائد الجزر
    بواسطة أمير العاشقين في المنتدى منتدى الصحة والسلامه
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 08-21-2005, 02:52 AM

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •