الج ـزء (21)

قرر عمي بعد أن تماثل نوعاً ما للشفاء بإقامة اجتماع عائلي ، يحضره الجميع ..
و قد شملني بالجميع باعتباري قد بت فرداً من أفراد العائلة ..
و لكم انقبضت عضلات صدري..
و أنا أرى من ضمن الحاضرين تلك العمة و ابنتها المغرورة و قد انزوتا في أحد أركان المجلس ..
دون أن يحتكا بالآخرين ..
و على ما يبدو .. أن الجميع يكره التعامل معهما ..
و لست وحدي من ينقبض صدري لتواجدهما ها هنا..
" يا رب عدي اليوم دون أي مشاكل .. "

ثم أنه بالفعل يا سبحان الله ..
فلكم هو من غرائب النفس البشرية أن تنقبض أو تنبسط.. جراء أناس معينين تقابلهم في حياتك ..
و يبقى سبب الانقباض أو الانبساط مجهولاً ..
يجهل الإنسان كنهه ..
و ربما يعود إلى الأبراج و عالم الذر .. كما يقول البعض ..

تنحنح عمي ..
ثم بدأ حديثه معنا بنظرات عميقة .. و نبرة هادئة حانية .. تشبه إلى حد كبير .. نبرة عصام ..
حمد الله و أثنى عليه في البداية ..
ثم أخبرنا كيف هي الدنيا قصيرة جداً .. و أن متاعها زائل و فان ..
و أنها مجرد دار ممر لدار مستقر .. و أن خيرنا من عمل لآخرته ..
و أن لا إنسان على وجه الأرض يعلم ما هو مقدار عمره .. و لربما ساعة الرحيل قد اقتربت ..
لذا فإنه يريد أن يوصينا بوصاياه العديدة ..
و يبرأ ذمته قبل أن يوافيه الأجل ..
" أطال الله في عمرك يا أبي .. ومنَّ عليك بالصحة و العافية "

هكذا نطق عصام الجالس إلى جواري ..
أما أنا فقد أيدته من كل أعماقي ..
خوفاً من مصيبة تحل بنا و بحفلتنا المرتقبة ..
و بالطبع ..
لأني قد بدأت أحب عمي كثيراً .. و أخاف عليه ..

صوب عمي بعدها نظراته نحو أخته ، موجها إليها حديثه.. مخبراً إياها أنه سيكتب لها الأرض ، و إن لم يكن لها أي حق شرعي فيها .. فقط ليرضي ضميره ..
إلا أنه واصل و بنفس النبرة الهادئة قائلاً ..
" لكني أبداً لا أرغب في رؤيتك بعد ذلك .. و قد اخترت دربك بنفسك منذ أزمان طويلة .. منذ أن تزوجتيه و رحلتي دون إرادة والدي - رحمه الله -!"

قطعت عليه العمة حديثه بتمتمات غير مفهومة ..
إلا أن سرعان ما أوقفها بإشارة من يده ..
و لكأنه لا يرغب بسماع أي شيء منها ..
ثم و بابتسامة أبوية رائعة .. وجه أنظاره إلينا ..
أنا و عصام ..
ليعلن للجميع أن حفلة خطوبتنا ستكون في الأسبوع القادم .. في ليلة الجمعة على التحديد ..
" أيناسبك الموعد يا عروسنا الحلوة .. ؟؟!! "
و احمرت وجنتاي خجلاً ..
قبل أن أطأطأ رأسي بالإيجاب قائلة ..
" نعم عمي .. كثيراً .. ! "
و الحقيقة أنه و مع كون الموعد قريباً جداً ..
و ليس أمامي سوى أسبوع واحد فقط للتجهيز للحفلة ..
إلا أني شعرت براحة نفسية نوعاً ما ..
و قد تقرر أخيراً موعد حفلتي المرتقبة..
و مع الفكرة ..
ألم بي صداع عنيف ضرب رأسي و أنا أستحضر في خاطري مستلزمات الحفلة ..
" أوووه .. هناك الكثير و الكثير مما يتحتم علي فعله في هذا الأسبوع ..!! "
الباقة ، الفستان و بروفاته الأخيرة .. بطاقات الدعوة .. العشاء.. مواعيد الصالون و الكوافير .. حجز الصالة .. الملايّـة !! "
" اممم .. ما إلي إلا صفاء .. "

خاطر وديع راودني لحظتها ..
بأنه يجب الاتصال بصفاء الليلة ..
لترتيب هذه المشاوير معها ..
إذ لا بد من تواجدها معي في هكذا أزمة ..!!
بل أني سأقترح معها المبيت معي في البيت ..
فهذا سيسهل عملية المشاوير ..
و سيوفر الوقت على كلينا ..
اممم..
و لكن لما لا أطلب من عصام أن يعيرني سيارته ..
عوضاً عن تكفيل صفاء مهمة ( السائق ) ..
فجميع المخطوبات اللاتي أعرفهن ..
يستعرن سيارات أزواجهن !
غداً أفاتحه بالأمر ..

في هذه اللحظة بالذات ..
انتبهت من خواطري على سعال عمي الحاد..
و الذي كان متواصلاً بحيث أن أنفاسه كانت تتقطع ..
بل و أنفاسنا نحن جميعاً ..
و قد احتقن وجهه بالدماء .. و تلّون بالأحمر ..!!

و أقسم أن الدموع كانت قد بدأت تنساب من عيني ..
خوفاً عليه .. و قد وضعت يدي على قلبي ..
مخافة أن يحدث له أي شيء ..
و قد بدا لي للوهلة أنه في نزاعه الأخير مع بقايا الحياة .. أو مع بداية الموت ..
و لولا أن عاجلته سلمى بكأس ماء بارد .. استرجع به أنفاسه و ارتوت به عروقه ..

لما ارتاح قلبي ..
و لما تنهدت تلك التنهيدة العميقة النابعة من أعماق أعماقي .. و التي لفتت إلي الأنظار جميعها .. !

و لم يكن ليشفع لي موقفي المحرج أمامهم ..
سوى أني لم أكن وحدي من أطلق تلك التنهيدة العميقة .. فقد كان عصام إلي جانبي ..
يتنهد ..
بل ويلهث مسترجعاً أنفاسه المتلاحقة .. !!

لذا اعتلت وجوه الجميع ابتسامة رضا و محبة ..
قبل أن يرتفع من الخلف ..
و بالأحرى من ذاك الركن المنزوي ..
صوتاً غليظاً قائلاً..
" لم أكن أريد سوى أن أثبت و للجميع أني فرداً من العائلة و لي حقوقي فيها .. فأنت تعلم جيداً أن الأرض حقي.. كما أن عصام هو حق ابنتي"

.. إلا أن عمي قاطعها قبل أن تكمل حديثها بنبرة مرتفعة .. جعلتني أرتبك في مكاني ..
من شدة القلق و الخوف ..
" إلى الخارج .. دعي ابني و عروسه في شأنهما.. و لا حق لك بيننا .. خذي الأرض و ارحلي .. !! "

وقفت العمة حالاً.. و هي تلملم أطراف عبائتها و تجر ابنتها جراً من خلفها ..
و قبل أن يتسللا إلى الخارج..
احتوياني بنظرة ملؤها الحقد و الكراهية !!
بل أن صوتهما قد وصل إلى مسامعي ..
و هي تقول لي مهددة إياي ..
" حفلة عصام لن تقوم.. إلا على جثماني .. و سترين يا خاطفة الرجال ! "
و قبل أن أبدي أي ردة فعل اتجاه تهجمهما علي .
كانت يد عصام هي الأسرع لاحتواء كفي في يده ..
ليضغط عليها بكل حب ..
ممتصاً بهذا روعتي .. و ثورة غضبي .. !
" يا ربي استرها علي ّ .. و اهديهم .. و اكفني شرهم.. فلست ذا أريد المزيد من المشاكل ! "

ثم تناهى إلى أسماعنا جميعاً..
صوت باب المجلس و هما تصفقانه و بقوة ..
تاركة خلفهما أطيافهما المرعبة .. المشبعة حقداً و كراهية ..!
و سرعان ما التقت نظراتي بنظرات عصام..

و إن كانت نظراتي في تلك اللحظة مملوءة بالقلق و الخوف و الألم ..
جرّاء تهديدهما و تصرفهما معي ..
فقد كانت كما العادة ..
نظرات عصام .. عميقة و ثابتة .. تشعان بوميض حاني.. مكلل بالحب و الحنان ..
" آآآه .. الله يخلي اللي هالعيون .. و صاحب هالعيون .."
أو كما يقول راشد في أحد أغانيه ..
" هالعيون اشلون أملها .. سحر ذوبني غزلها .. !! "




.. البقية تأتي ..