الج ـزء (10)

-"سأنتظر إلى المساء و إن لم يتصل عصام بي سأتصل بأخته سلمى لأستشف الأمر منها ..
ها ما رأيك ؟! "

هكذا حادثت صفاء في عصر ذلك اليوم ..
و قد هدأت أعصابي قليلاً .. و ربما بدأت حينها التفكير فقط بعقلي ..
على غير عادة النساء ..
-" و لما لا تحادثينها الآن ! .. فلربما بالفعل قد طرأ أمر ما على عائلة عصام منعه من الاتصال بك .. !
ثم لتريهم أنك جد مهتمة بهم و لأخبارهم .. و ما إلى ذلك .. "

سرحت إلى ما وراء كلمات صفاء ..
ففي واقع الأمر لكم أرعبتني جملتها الأخيرة .. فيا ربي سترك ..
أسرعت نحو الهاتف مباشرة .. لأدير رقم سلمى ..
و قد خطر لي بأني سأبدأ حديثي معها بأمور جد عادية ..
و ليكن السبب الرئيسي لاتصالي هو سؤالها عن وصفة طبق الحلاوة الذي أذاقتني منه ذاك اليوم ..
سبب مقنع و جوهري .. أليس كذلك ؟!!
طال رنين الهاتف .. و لا من مجيب ..

مما زاد في انقباض صدري .. و تجهم وجهي ..
و لربما بدأ حدس الأنثى يستفيق عندي ..
فكما تعلمون جميعاً أن للأنثى حدس .. عادةً لا يخيب ..
كررت المحاولة بعد ربع ساعة ..
ليجيئني صوتها باكيا بالكاد استطعت تمييزه من حدة البكاء ..
-" سلمى .. عزيزتي .. ماذا هناك .. ؟؟"

هتفت بكل ما امتلكت من عاطفة و تفاعل لحظتها ..
ثم أني بالكاد بدأت أفهم منها بضع كلمات متقاطعة ..
-" أبي .. المستشفى .. خطيرة .. عناية قصوى ..!! "
أنهرت على الكرسي المجاور و أنا أحاول ربط تلك الكلمات في جملة مفيدة .. لأستوعب الحدث الجم الذي قد طرأ على عائلة عصام ..
-" أووه ،، يا ربي ! "
بعدها بدأت أهذي بجمل مواساة و تعاطف ..
تقال عادة في مثل هذه المواقف ..
و لست أتذكر في واقع الأمر أي جملة قلتها أو ما هذيت به في تلك اللحظة .. لذا أنهيت المكالمة بسرعة .. لأرفع عيني و قد ازدانتا بالدمع .. !
-" أبو عصام .. في العناية القصوى ! "
و لم أكن لأسمع ما قالته لي صفاء رداً على عبارتي تلك ..
فقد شرد بي ذهني بعيداً .. و تجسد لي في أعماقي أبو عصام و هو يستقبلنا مبتسماً على أعتاب بيته .. مرحباً بنا و أيما ترحيب ..

" يا ألله .. ابتسامته تكاد لا تفارق مخيلتي .. فلا تزال مطبوعة على وجداني ."
أسرعت إلي أمي .. و هي تلمح من بعيد علامات خبر سيء ..
و لمّـا سمعت بالخبر ..
طلبت مني أن أرتدي عباءتي على عجل .. لنذهب لنزور أبا عصام في المستشفى و نقوم بالواجب .. فلا يزال وقت الزيارة مفتوحاً ..
و أخذنا معنا صفاء أيضاً ..
هناك ،،
و بعد مرورنا على دهاليز طويلة و متشعبة ..
لمحت سلمى منهارة على كرسي أخضر بالقرب من وحدة العناية المركزة .. و قد اتشحت بهالة من الحزن و الهم العميق ..
أسرعت إليها لأحتضنها مواسية متعاطفة .. و وقفت معي صفاء و أمي تشاركاني مهمة التخفيف عنها ..
و إذ بي في تلك اللحظة ألمح خيال عصام أمامي .. و قد كان يذرع الممر جيئةً و ذهاباً !
ألقى عصام تحية شملنا بها جميعاً ..
و كانت أمي هي أول من استلمت مضمار الحديث معه ..
و في واقع الأمر لست أدري ماذا كانت تقول أمي له ..
إذ أن جل تفكيري كان يتمحور حينها حول ماذا أقول إلى عصام ..
هل أظهر له "زعلي" مثلا في مثل هذا الموقف أم أني أؤجل "الزعل" إلى ما بعد ؟!
أممم ,,
لكن من حقي أن أزعل .. و أن أغضب و أن أعاتب ..
وقت ما أريد .. أليس كذلك !
لا .. لا ..تريثي يا مرام ..
ليس هذا أبداً وقت العتاب ..
عصام بأمس الحاجة إلى وقوفي إلى جانبه في هكذا محنة ..
مهما كان موقف عصام مني ..
أو موقف عمته السلبي معي ..
هكذا كنت أحادث نفسي كالمجنونة ..
لأهمس أخيراً لعصام بأن يتصبر ..
فإن أباه سيتعافى إن شاء الله .. من هذه الأزمة القلبية الطارئة ..و أن لا شر عليه أبداً !
ولا أدري كيف امتلكت يدي الجرأة حينها لتبحث عن يديه في صميم الموقف .. لتشد عليها حانية متعاطفة ..
كما أن ابتسامة شفافة مواسية كانت قد ارتسمت أيضاً على شفتي ..
هذا بالإضافة إلى الدعاء بالشفاء لأبيه من محنته المرضية ..
هو جل ما أستطيع فعله في هكذا موقف ..
و لأني لحظتها شعرت بالفعل بأن عصام مع اضطرابه الشديد و مع كم القلق الذي كان يعصف به في تلك اللحظة ..
قد ارتاح نفسياً و لو نسبياً ..
ربما لتواجدي معه..
أو ربما لشعوره بأني سأواجه الموقف معه ..
مهما كان سيئاً و أني أسانده بكل ما لي من طاقة و قوة ..


رفعت رأسي ..
و قد تناهى إلى سمعي صوت كعب ثقيل ..

يكاد يدك الأرض دكاً ..
و يعكر صفو الجو العاطفي الحميم وجدانياً و الذي كان يحتويني و عصام في تلك اللحظة ..
و لكم أن تتخيلوا أن كل ألوان العبوس و الاشمئزاز و القرف ..
قد ارتسمت على وجهي و هي تلمح وجوه أصحاب الكعب العالي ..

" يا ألهي ..مالذي جاء بهم إلى هنا .. هؤلاء هم بالفعل آخر من أرغب في لقياهم في هكذا موقف ! "



.. للحديث بقيه ..