بسمه تعالى
رشفة للشيخ جوادي املي
يمكن الجمع بين الآيتين الشريفتين: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾(1)، و﴿إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾(2)، وذلك أنّ الآية الكريمة الأولى بيان لغاية الخلقة، يعني أنالهدف السامي للمخلوق والكمال النهائي له، هو أن يكون عبداً لله، كما قال مولى الموحدين علي بن أبي طالب (عليه السلام): «إلهي كفى بي عزّاً أن أكون لك عبداً وكفى بيّ فخراً أن تكون لي ربّاً»(3). والآية الكريمة الثانية تشير الى نكتة وهي أنّ الله ليس محتاجاً لكي يكون مورداً للعبادة، بحيث أنه لو لم يُعبد فإنه سوف يبقى على نقصه وحاجته، وحيث يُعبد فإنّ نقصه يرتفع وحاجته تُؤمّن. تنزّه الله الغني المحض عن الفقر والإحتياج الى شيء، وإنما هو الغني والجواد سواء عُبد أم لم يُعبد.
ومن خلال هذا البيان يتضح معنى قول الله: «كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق لكي أُعرف»(4)، وذلك لأنّ معرفة الله عين عبادته هي مقصود وغاية الخلق لا غاية الخالق، وذلك لأنّ وجود الهدف إنما هو للمحتاج لا للغني، وتصور الغرض للناقص أمر ممكن لا الكامل بالذات لأنّ الذات الكاملة هي هدف جميع ما سواها.
والبيان الفلسفي للمسالة المذكورة هو ما يلي: كما أنّ الغاية أمر ضروري لكل عمل، ولكل فيض غرض لازم، فإنّ كل فاعل يفعل الفعل بقصدٍ ليطلب به الكمال ويكمل، أما إذا كان الكمال المحض، مبدأ للفيض وسبباً لأمر ما فكيف يمكن أن نفرض له غرضاً إضافة على ذاته، بل هو الغرض الذاتي لكل فعل وفيض، كما أنه مبدأ ذاتي لكل أثر وخير، كما أفاد القرآن الحكيم هذه النكتة هكذا: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ﴾(5)، فالله سبحانه نفسه غاية بالذات وليس له غاية، كما أنه فاعل بالذات بالنسبة إلى الآخرين وليس له فاعل، وهو خالق كل شيء وترجع الأعمال إليه: ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾(6).
وبهذا البيان يتضح سرّ هذا القول الإلهي: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ﴾(7)، وذلك لأنّ الحج عبادة أوجبت من جانب الله على الناس، وهم بحاجةالى أداء الحج والعمرة، إذاً فإذا كفروا وتمردوا، فإنه يجب أن يعلموا أنّ الله غني عن العالمين، فما بالك بهم وبعبادتهم.
وحاصل القول أنّ «الحج» مثل سائر العبادات غاية الحق لا الخالق، ومن يؤدي الحج فقد جمع أفضل متاع من خلال حجة، والله غني محض، لأنه عين الغنى والإستغناء ومحض الكمالن وفي النتيجة لا يمكن تصوّر غاية زائدة على ذاته، لأنّ الغاية الذاتية ليس لهاغاية أبداً.
وبعد توضيح هذه النكتة وهي «أنّ العبادة بظاهرها وباطنها غاية المخلوق المحتاج لا الخالق الغني المحض»، نعود الى أصل البحث وهو أنّ هدف الإنس والجن في نظام التشريع هو تكاملهم العبادي، وإذا ألّق الإنسان روحه المجردة العقلية، وسبق رفاقه، فسيُصبح هدفاً لكثير من الموجودات دونه، مع أنّ الهدف النهائي للجميع هو الله، ولكن كما في قوس النزول أنّ الصادر الأول هو جوهر العقل، لأنّ مدار الإمكان بدايته من العقل وختمه بالعاقل. وهذه المسألة ليست في تصور العقول العشرة وأمثالها، وإن كانت الحكمة المشائية أيضاً لم تعدّها من مسائلها الجزمية الفلسفية، وأوردتها على حدّ الإحتمال فقط، وإنما هذه المسألة المذكورة قائمة على أساس تشكيك الوجود أو الظهور الذي تفهمها الحكمة المتعالية، أو يراها العرفان.

1ـ سورة الذاريت، الآية 56.
2ـ سورة إبراهيم، الآية 8.
3ـ بحار الأنوار، ج74، ص402.
4ـ المصدر نفسه، ج84، ص199.
5ـ سورة الحديد، الآية 3.
6ـ سورة الأعراف، الآية 29.
7ـ سورة آل ‌عمران، الآية 97.
المصدر: «صهباي حج، ص308»؛ «صهباء الحج».
4/8/2008