بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة على مولانا رسول الله وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه النجباء والموالين في مشارق الأرض ومغاربها من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين .

من خطب مولانا أميرُ المُؤمنين - ع - بذي قارٍ , بعد أن حمد اللّه وأثنى عليه قال :

أمّا بعدُ :

فإنّ اللّه تبارك وتعالى بعث مُحمّداً – ص - بالحقّ ليُخرج عبادهُ من عبادة عباده إلى عبادته , ومن عُهُود عباده إلى عُهُوده , ومن طاعة عباده إلى طاعته , ومن ولاية عباده إلى ولايته , بشيراً ونذيراً وداعياً إلى اللّه بإذنه وسراجاً مُنيراً , عوداً وبدءاً , وعُذراً ونُذراً , بحُكمٍ قد فصّلهُ , وتفصيلٍ قد أحكمهُ , وفُرقانٍ قد فرقهُ , وقُرآنٍ قد بيّنهُ , ليعلم العبادُ ربّهُم إذ جهلُوهُ , وليُقرُّوا به إذ جحدُوهُ , وليُثبتُوهُ بعد إذ أنكرُوهُ , فتجلّى لهُم سُبحانهُ في كتابه من غير أن يكُونُوا رأوهُ , فأراهُم حلمهُ كيف حلُم , وأراهُم عفوهُ كيف عفا , وأراهُم قُدرتهُ كيف قدر , وخوّفهُم من سطوته وكيف خلق ما خلق من الآيات , وكيف محق من محق من العُصاة بالمثُلات , واحتصد من احتصد بالنّقمات , وكيف رزق وهدى وأعطى وأراهُم حُكمهُ , كيف حكم وصبر حتّى يسمع ما يسمعُ ويرى فبعث اللّهُ عزّ وجلّ مُحمّداً – ص - بذلك , ثُمّ إنّهُ سيأتي عليكُم من بعدي زمانٌ ليس في ذلك الزّمان شي‏ءٌ أخفى من الحقّ , ولا أظهر من الباطل , ولا أكثر من الكذب على اللّه تعالى ورسُوله – ص - , وليس عند أهل ذلك الزّمان سلعةٌ أبور من الكتاب إذا تُلي حقّ تلاوته , ولا سلعةٌ أنفق بيعاً ولا أغلى ثمناً من الكتاب إذا حُرّف عن مواضعه , وليس في العباد ولا في البلاد شي‏ءٌ هُو أنكر من المعرُوف ولا أعرف من المُنكر , وليس فيها فاحشةٌ أنكر ولا عُقُوبةٌ أنكى من الهُدى عند الضّلال , في ذلك الزّمان فقد نبذ الكتاب حملتُهُ , وتناساهُ حفظتُهُ , حتّى تمالت بهمُ الأهواءُ , وتوارثُوا ذلك من الآباء , وعملُوا بتحريف الكتاب كذباً وتكذيباً , فباعُوهُ بالبخس , وكانُوا فيه من الزّاهدين , فالكتابُ وأهلُ الكتاب في ذلك الزّمان طريدان منفيّان , وصاحبان مُصطحبان في طريقٍ واحدٍ , لا يأويهما مُؤوٍ فحبّذا ذانك الصّاحبان , واهاً لهُما ولما يعملان لهُ , فالكتابُ وأهلُ الكتاب في ذلك الزّمان في النّاس وليسُوا فيهم ومعهُم وليسُوا معهُم , وذلك لإنّ الضّلالة لا تُوافقُ الهُدى , وإن اجتمعا وقد اجتمع القومُ على الفُرقة , وافترقُوا عن الجماعة , قد ولّوا أمرهُم وأمر دينهم من يعملُ فيهم بالمكر , والمُنكر , والرّشا , والقتل , كأنّهُم أئمّةُ الكتاب وليس الكتابُ إمامهُم , لم يبق عندهُم من الحقّ إلا اسمُهُ , ولم يعرفُوا من الكتاب إلا خطّهُ وزبرهُ , يدخُلُ الدّاخلُ لما يسمعُ من حكم القُرآن فلا يطمئنُّ جالساً حتّى يخرُج من الدّين ينتقلُ من دين ملكٍ إلى دين ملكٍ , ومن ولاية ملكٍ إلى ولاية ملكٍ , ومن طاعة ملكٍ إلى طاعة ملكٍ , ومن عُهُود ملكٍ إلى عُهُود ملكٍ , فاستدرجهُمُ اللّهُ تعالى من حيثُ لا يعلمُون , وإنّ كيدهُ متينٌ ب , الأمل والرّجاء حتّى توالدُوا في المعصية , ودانُوا بالجور والكتابُ , لم يضرب عن شي‏ءٍ منهُ صفحاً ضُلالاً تائهين قد دانُوا بغير دي اللّه عزّ وجلّ , وأدانُوا لغير اللّه , مساجدُهُم في ذلك الزّمان عامرةٌ من الضّلالة , خربةٌ من الهُدى , قد بُدّل فيها من الهُدى فقُرّاؤُها وعُمّارُها , أخائبُ خلق اللّه وخليقته , من عندهم جرت الضّلالةُ وإليهم تعُودُ , فحُضُورُ مساجدهم والمشيُ إليها كُفرٌ باللّه العظيم إلا من مشى إليها وهُو عارفٌ بضلالهم , فصارت مساجدُهُم من فعالهم على ذلك النّحو , خربةً من الهُدى , عامرةً من الضّلالة , قد بُدّلت سُنّةُ اللّه , وتُعُدّيت حُدُودُهُ , ولا يدعُون إلى الهُدى , ولا يقسمُون الفي‏ء , ولا يُوفُون بذمّةٍ , يدعُون القتيل منهُم على ذلك شهيداً , قد أتوُ اللّه بالإفتراء والجُحُود , واستغنوا بالجهل عن العلم , ومن قبلُ ما مثّلُوا بالصّالحين كُلّ مُثلةٍ , وسمّوا صدقهُم على اللّه فريةً , وجعلُوا في الحسنة العُقُوبة السّيّئة , وقد بعث اللّهُ عزّ وجلّ إليكُم رسُولاً من أنفُسكُم عزيزٌ عليه ما عنتُّم حريصٌ عليكُم بالمُؤمنين رؤُفٌ رحيمٌ , وأنزل عليه كتاباً عزيزاً لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه , تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ قُرآناً عربيّاً غير ذي عوجٍ , ليُنذر من كان حيًّا ويحقّ القولُ على الكافرين , فلا يُلهينّكُمُ الأملُ , ولا يطُولنّ عليكُمُ الأجلُ , فإنّما أهلك من كان قبلكُم أمدُ أملهم , وتغطيةُ الآجال عنهُم حتّى نزل بهمُ الموعُودُ الّذي تُردُّ عنهُ المعذرةُ , وتُرفعُ عنهُ التّوبةُ , وتحُلُّ معهُ القارعةُ والنّقمةُ , وقد أبلغ اللّهُ عزّ وجلّ إليكُم بالوعد , وفصّل لكُمُ القول , وعلّمكُمُ السُّنّة , وشرح لكُمُ المناهج , ليُزيح العلّة , وحثّ على الذّكر , ودلّ على النّجاة , وإنّهُ من انتصح للّه واتّخذ قولهُ دليلاً هداهُ للّتي هي أقومُ , ووفّقهُ للرّشاد , وسدّدهُ , ويسّرهُ للحُسنى , فإنّ جار اللّه آمنٌ محفُوظٌ , وعدُوّهُ خائفٌ مغرُورٌ , فاحترسُوا من اللّه عزّ وجلّ بكثرة الذّكر , واخشوا منهُ بالتُّقى , وتقرّبُوا إليه بالطّاعة , فإنّهُ قريبٌ مُجيبٌ , قال اللّهُ عزّ وجلّ : وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريبٌ أُجيبُ دعوة الدّاع إذا دعان فليستجيبُوا لي وليُؤمنُوا بي لعلّهُم يرشُدُون , فاستجيبُوا للّه وآمنُوا به وعظّمُوا اللّه الّذي لا ينبغي لمن عرف عظمة اللّه أن يتعظّم , فإنّ رفعة الّذين يعلمُون ما عظمةُ اللّه أن يتواضعُوا لهُ , وعزّ الّذين يعلمُون ما جلالُ اللّه أن يذلُّوا لهُ , وسلامة الّذين يعلمُون ما قُدرةُ اللّه أن يستسلمُوا لهُ , فلا يُنكرُون أنفُسهُم بعد حدّ المعرفة , ولا يضلُّون بعد الهُدى , فلا تنفرُوا من الحقّ نفار الصّحيح من الأجرب , والبارئ من ذي السُّقم , واعلمُوا أنّكُم لن تعرفُوا الرُّشد حتّى تعرفُوا الّذي تركهُ , ولم تأخُذُوا بميثاق الكتاب حتّى تعرفُوا الّذي نقضهُ , ولن تمسّكُوا به حتّى تعرفُوا الّذي نبذهُ , ولن تتلُوا الكتاب حقّ تلاوته حتّى تعرفُوا الّذي حرّفهُ , ولن تعرفُوا الضّلالة حتّى تعرفُوا الهُدى , ولن تعرفُوا التّقوى حتّى تعرفُوا الّذي تعدّى , فإذا عرفتُم ذلك عرفتُمُ البدع والتّكلُّف , ورأيتُمُ الفرية على اللّه وعلى رسُوله , والتّحريف لكتابه , ورأيتُم كيف هدى اللّهُ من هدى , فلا يُجهلنّكُمُ الّذين لا يعلمُون , إنّ علم القُرآن ليس يعلمُ ما هُو إلا من ذاق طعمهُ فعُلّم بالعلم جهلهُ وبُصّر به عماهُ , وسُمّع به صممهُ , وأدرك به علم ما فات , وحيي به بعد إذ مات , وأثبت عند اللّه عزّ ذكرُهُ الحسنات , ومحا به السّيّئات , وأدرك به رضواناً من اللّه تبارك وتعالى , فاطلُبُوا ذلك من عند أهله خاصّةً , فإنّهُم خاصّةً نُورٌ يُستضاءُ به , وأئمّةٌ يُقتدى بهم , وهُم عيشُ العلم وموتُ الجهل , هُمُ الّذين يُخبرُكُم حُكمُهُم عن علمهم , وصمتُهُم عن منطقهم , وظاهرُهُم عن باطنهم , لا يُخالفُون الدّين , ولا يختلفُون فيه , فهُو بينهُم شاهدٌ صادقٌ , وصامتٌ ناطقٌ , فهُم من شأنهم شُهداءُ بالحقّ ومُخبرٌ صادقٌ , لا يُخالفُون الحقّ ولا يختلفُون فيه , قد خلت لهُم من اللّه السّابقةُ , ومضى فيهم من اللّه عزّ وجلّ حُكمٌ صادقٌ , وفي ذلك ذكرى للذّاكرين , فاعقلُوا الحقّ إذا سمعتُمُوهُ عقل رعايةٍ , ولا تعقلُوهُ عقل روايةٍ , فإنّ رُواة الكتاب كثيرٌ , ورُعاتهُ قليلٌ واللّهُ المُستعانُ .

فسلام الله عليك يا سيد البلغاء والحكماء والأوصياء والنجباء أبدا ما بقيت وبقي الليل والنهار , سلام الله عليك وعلى ابن عمك المختار وآله الأبرار حجة الله على العالمين الأخيار ورحمته وبركاته ملأ سماواته وأرضه ومداد كلماته وزنة عرشه ورضا نفسه .

(1)(1)