وصلت الرسالة إلى مصطفى , فاستلمها على لهفة الشوق والحنين , وأسرع إلى قراءتها بفرحة وسعادة , ولكنه سرعان ما أحس بالصدمة والخيبة , ثم بالذهول والحيرة , وحاول أن يكذب عينيه , فأعاد القراءة من جديد , ولكن إعادة القراءة لم تزده إلا يقيناً بما يرى , إنها حسنات , الفتاة الطيبة المؤمنة الطاهرة التي اختارتها له أخته زينب ومدحتها له بشكل جعله يقدم على خطوبتها من دون أن يراها , نعم إنها حسنات , تلك التي عقد على حياته معها الآمال الكبار , والأماني العذاب , فإذا بها تكتب إليه لتقول وبصراحة , بأنها لاتؤمن حتى بوجود الله !! فما أقسى هذا وأدهاه ؟ ولكن كيف حدث هذا ياترى ؟ وكيف انخدعت بها زينب على هذا الشكل , وهي صديقتها المفضلة , ثم كيف له أن يتصرف حيال هذا الموقف المرير ؟ وحاول مصطفى أن يفكّر بموقفه بعد أن تخلّص قليلاً من هول الصدمة , فكان أول ماخطر له أن يرسل على زينب تأنيب ومعها توكيل بالطلاق , ولكنه عاد فخطر له أن تعجله بالطلاق يعني تهرّباً من مسؤليته تجاهها , وهي مسؤلية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , فلعلّه الآن قادر على محاولة هدايتها , وله بعد ذلك وعلى فرض نجاحه أو فشله أن يتصرف تجاهها كما يشاء , وكان كلما فكّر أكثر ترجّحت عنده هذه الخطوة , فكتب إليها الجواب , وحرصا أن يكون جواباً للشبة لا أكثر ولا أقل فكان هكذا :
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليك ياحسنات ورحمة الله وبركاته .
يؤسفني أن أكون قد أبطأت عنك في الكتابة ولكنني كنت خلال هذه الفترة أحاول أن أتخلص من آثار الصدمة التي صدمت بها , بعد أن استلمت رسالتك الصريحه ( على حد تعبيرك ) وجينما عجزت عن التخلص من الصدمة عدت إلى واجبي الديني تجاهك , وقد وقفت أمام ما كتبتِ عن عدم الحاجة إلى الدين وقفة الحزين , أفتراك جادة فيما كتبتِ ؟ أم أنك كنتِ تهزلين ولا أدري أي وضع مؤسف أملى عليك هذه الأفكار ؟ وكما أرى ضحية من ضحايا الخداع والتضليل فإنني أكتب إليك كما يكتب الأخ لأخته , مستشعرً بالمسؤلية الدينية تجاهك و الإجتماعية تجاهك , أما ماذكرتيه في خصوص ارتفاع حاجتنا عن الإيمان بالله , وبالتالي عن الدين , فاعلمي أن الإيمان بالله - الذي هو الطرق إلى الدين- ليس كما تتوهمين وليد فترة ظلم أو استغلال لأنه وجد من قبل أن يوجد الظلم , وقبل أن يوجد الإختلاف والتباين في الطبقات , أنه ليس وليد تناقض طبقي كما خيّل لكِ وإلاّ فأيّ تناقض طبقي يمكن أن يتصوره الإنسان في بداية الخليقة , حيث كان الغذاء واحد , والكساء واحد , وحدود المعرفة واحد , والإيمان بالله وجد منذ بدء الخليقة , ومنذ عرف الإنسان معنى الوجود , ولعلّك هنا تتسائلين , كيف يمكن ليّ أن أدعيّ هذا وأؤكد عليه ؟ ولكن ألا ترين أنّ لكل شيء آثاراً وسماتاً , وآثار الشيء ترسم وجودها على صفحات التاريخ , والتاريخ يحمل إلينا ذلك بوضوح , وهاك هذا المثال على ذلك... ففي مصر مثلاً , كان المصريون من أعرق الأمم التي آمنت بالروح وبالبعث والثواب والعقاب , ولكن على مستوى فهمهم البدائي لكلّ ذلك , ورمزوا للروح رموزاً عديدة تارة ( كا ) وتارة زهرة وتارة رمزوا إليه بصوره طائر له زي وجه آدمي , وصور هذه الرموز وآثارها مازالت واضحة بين الآثار , وفي صفحات التاريخ , ثم عبادتهم البدائيه لفتاح , وماكانو عليه في تلك الفترة من محاولة التقرّب إلى المعاني الروحية كما جاء في إحدى صلوات فتاح = الفؤاد واللسان للمعبودات ومنه يبدأ الفهم والمقال , فلا ينبعث من ذهن ولا لسان فكر أو قول بين الأرباب أو الناس أو الأحياء أو كل ذي وجود إلاّ وهو من وحي فتاح = ثم وبعد ذلك , وحين تولى أخناتون الملك , وقد كان معروفاً بالتأمل والتفكير , بدأ يصحح ( وعلى مدى إمكانياته وطاقاته الفكرية ) من طبيعة العبادة كما جاء في صلواته التي يحفظها التاريخ قوله = ماأكثر خلائقك التي نجهلها , أنت الإله الأحد الذي لا إله غيره , خلقت الأرض بمشيئتك , وتفرّدت فعمرت الكون بالإنسان والحيوان والكبار والصغار = هذا في مصر . ثم إننا نتمكن من أن نستخلص من التاريخ أن الإنسان قد آمن بفكرة الإله الواحد قبل الميلاد بأكثر من عشرة قرون .....
هذه ياحسنات نبذة صغيرة , ولمحات قصيرة , تدل وبوضوح على أسبقية فكرة الإيمان بالله لكلّ ما ذكرت من أسباب , وأنني حينما أذكرها لك لا أريد أن أقول أنها وبجميع
أدوارها فكر صحيحة متبلورة , فهي خاضعة كما ترين لمستوى الإنحطاط الفكري لكل جيل تمرّ فيه , وهي مشوبة كما ترين بطبيعة الأفكار المعاشة في ذلك العصر , ولهذا نجدها في أغلب حالاتها مغايرة للايمان بالوحدانية المطلقة وإن كانت تدل بوضوح على وجود الإيمان بالله , ولكن بشكل يلائم النضوج الفكري المعاش حين ذلك , أرجو أن لا أكون قد أطلت عليك ولعلّك لو قرأت كتاب الله للعقاد لزدت معرفة بما ذكرت , ويقينا بما كتبت , والله من وراء القصد , وأتمنى لك كل خير .. مصطفى
انتهت رحاب من قراءة الرسالة , وباتت ليلتها تلك مؤرقة تفكّر فيما كتب مصطفى , وتحاول أن تطابق بينه وبين ما تعرف لتجد أي المعرفتين أقوى , وأيهما تستند إلى قواعد أصلب , وركائز أعمق , ولم تتمكن أن تتوصل إلى شيء عن طريق الفكر , فتوجهت نحو طريق العناد , نعم العناد الذي سيطر عليها دائماً وأبداً , فنشطت منذ الصباح إلى الكتابة وقبل أن ترى أختها حسنات , خشية أن تستشعر شيئاً من العواطف التي تقعد بها عن الكتابة , سيما أنها كانت تجد حسنات في الفترة الأخيرة طويلة الصمت , قليلة الضحك , قد لوّنت صفاء وجهها مسحة من شحوب , وكانت تعلم أن ذلك من أجل مصطفى ولسبب عدم تسلمها رسالة منه , وكانت هي يلذ لها أحياناً , ويؤلمها في فترات قليلة عندما كان تأنيب الضمير يلحّ عليها بشدة , ولهذا فقد كتبت الجواب قبل أن تبرح الغرفة وسارعت إلى ابراده نفس اليوم , وقد كتبت إليه تقول :
عزيزي مصطفى , يعزّ عليّ أن أجدك متألما لصراحتي وقد كنت أنتظر منك كلاماً رقيقاً ناعماً على غرار كلماتك في الرسالة الأولى , ولكنك اندفعت وراء إثبات أفكارك تاركاً جانباً إثبات عواطفك , ولعلّك وجدتني غير أهل لها فأهملتها , وعلى أي حال فإن جوابك عن قِدم الإيمان بالله لطيف , والأدلة التاريخية واضحة , ولكنني لا أزال أقول إنّ الإيمان بالله ليس إلاّ وسيلة الضعفاء عند شعورهم بالعجز أمام الأقوياء , ان هذا الضعيف حينما يجد أنه عاجزاً عن صيانة نفسه ودفع الخطر عنها , يبدأ يفتش عن قوة وهمية , تحميه وتذوذ عنه الخطر , ومن هنا نشأت فكرة الإيمان بالله , وبالتالي فكرة الدين , هذا ما أعتقده يامصطفى وحينما كنّا نتمكن أن ندفع عن أنفسنا الخطر بتخلف أساليب الوقاية والحماية التي هي متوفرة الآن , لمات كنّا هكذا , فلماذا نعود لنرتبط مع مجهول من أجل أن نستمد منه الطاقة التي لم تعد تعوزنا في هذه العصور , نعم لماذا ياترى ؟ ليتك تجيبني إن استطعت , هذا ولك من تحياتي وأنا في انتظار الجواب. حسنات
**********************************
بقيت رحاب تنتظر الجواب في لهفة تختلف عن لهفتها السابقة , فهي الآن تريد أن تسمع الجواب عن سؤالها بعد أن استوعبت الجواب الأول وصدقت فيه , وكانت قد بدأت تنهش افتضاح أمرها الشيء الذي لم تلتفت إليه من قبل , فماذا لو عادت أخته من سفرها ؟ وماذا لو كتب لها معاتباً لاختيارها , وماذا لو استنكرت أخته ذلك وبحثت الموضوع مع حسنات وهي صديقتها المفضلة , وماذا لو عرف كل شيء , وكانت كلما وصلت في تصوراتها إلى هنا شعرت بالاختناق , فحاولت أن تبعد عنها هذه التصورات كي تبقى سائرة في خطواتها إلى آخر الطريق , ولم تطل بها فترة الانتظار , فقد استلمت الجواب وتعجلت قراءته في هذه المرة من أجل أن تسمع الجواب عمّا سألت وقد وجدت فيه مايلي :
**********************************
انتظروا رد مصطفى في الجزء التالي
تحياتي
ريووووووووووووش
المفضلات