ومن خطب الإمام الحسن عليه السلام

خطبه في زمن أبيه
روى ابن عساكر بإسناده عن معمر بن يحيى بن سالم قال: سمعت جعفراً قال: سمعت أبا جعفر قال: قال علي: قم فاخطب الناس يا حسن، قال: إني أهابك أن أخطب وأنا أراك، فتغيب أمير المؤمنين (عليه السلام) عنه حيث يسمع كلامه ولا يراه، فقام الحسن فحمد الله وأثنى عليه وتكلم، ثم نزل فقال علي: (ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم).

قال المسعودي: قد كان علي (رضي الله عنه وكرم الله وجهه) اعتل، فأمر ابنه الحسن (رضي الله عنه)، أن يصلي بالناس يوم الجمعة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله لم يبعث نبياً إلا اختار له نقيباً ورهطاً وبيتاً، فوالذي بعث محمداً بالحق نبياً لا ينتقص من حقنا أهل البيت أحد إلا نقصه الله من عمله، ولا تكون علينا دولة إلا وتكون لنا العاقبة، ولتعلمن نبأه بعد حين.

ومن خطب ـ الحسن عليه السلام ـ في أيامه في بعض مقاماته أنه قال: نحن حزب الله المفلحون، وعترة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الأقربون، وأهل بيته الطاهرون الطيبون، وأحد الثقلين اللذين خلفهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والثاني كتاب الله فيه تفصيل كل شيء لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه والمعول عليه في كل شيء، لا يخطئنا تأويله بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا، فإن طاعتنا مفوضة إذ كانت بطاعة الله ورسوله وأولي الأمر مقرونة (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله.. ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) وأحذركم الإصغاء لهتاف الشيطان إنه لكم عدو مبين، فتكونون كأوليائه الذين قال لهم (لا غالب لكم اليوم من الناس وأني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون) فلتُلْقَوْن للرماح أزراً، وللسيوف جزراً، وللعمد خطأ وللسهام غرضاً، ثم لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.

التزكية والتعليم
لقد قبل الإمام الحسن (عليه السلام) بالصلح للأسباب التي تقدم ذكرها في فصل خلافته (عليه السلام) وكان همه الأول الحفاظ على الدين والشيعة، لذلك فقد عاد من الكوفة إلى المدينة المنورة مهبط وحي جده الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وراح ينشر العلم بين الأصحاب وانصرف إلى تربيتهم وإرشادهم.

قال محمد بن طلحة الشافعي، المتوفي سنة 652: كان الله عز وجل قد رزقه الفطرة الثاقبة في إيضاح مراشد معانيه ومنحه الفطنة الصائبة لإصلاح قواعد الدين ومبانيه، وخصه بالجبلة التي درت لها أحلاف عادتها بصور العلم ومعانيه ومرت لها أطباء الاهتداء من تجدي جده وأبيه فيجيء بفكرة منجيه نجاح ما يقتضيه، وقريحة مصحبة في كل مقام يقف فيه، ثم اكتنفه الأصلان الجد والأب، وفي المثل السائر: ولد الفقيه نصف الفقيه وكان يجلس في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويجتمع الناس حوله فيتكلم بما يشفي غليل السائلين ويقطع حجج القائلين.

روى ابن عساكر بإسناده عن أبي سعيد: أن معاوية قال لرجل من أهل المدينة من قريش: أخبرني عن الحسن بن علي، قال: يا أمير المؤمنين، إذا صلى الغداة جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس ثم يساند ظهره فلا يبقى في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل له شرف إلا أتاه فيتحدثون حتى إذا ارتفع النهار صلى ركعتين، ثم نهض فيأتي لأمهات المؤمنين فيسلم عليهن فربما أتحفنه ثم ينصرف إلى منزله، ثم يروح فيصنع مثل ذلك، فقال معاوية، ما نحن معه في شيء.
للحسن (عليه السلام) خطب كثيرة في حياة أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام)، وبعد وفاته، قبل الصلح وبعده، ولو جمعنا هذه الخطب لجاءت في كتاب مستقل، وهذه الخطب تشتمل على الحمد لله والصلاة على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والإشادة بفضل أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام)، والدعوة إلى الحق، نقدم لكم منها:

1- من خطبة له (عليه السلام) في الكوفة يحثهم فيها على الجهاد.
الحمد لله العزيز الجبار، الواحد القهار، الكبير المتعال، سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار، أحمده على حسن البلاء، وتظاهر النعماء، وعلى ما أحببنا وكرهنا من شدة ورخاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لأه، وأن محمداً عبده ورسوله، أمتن علينا بنبوته، واختصه برسالته، وأنزل عليه وحيه، واصطفاه على جميع خلقه، وأرسله إلى الإنس والجن حيت عبدت الأوثان، وأطيع الشيطان، وجحد الرحمان فصلى الله عليه وآله، وجزاه أفضل ما جزى المرسلين؛ أما بعد: فإني لا أقول لكم إلا ما تعرفون: إن أمير المؤمنين (علي بن أبي طالب أرشد الله أمره، وأعزه ونصره، بعثني إليكم يدعوكم إلى الصواب، والعمل بالكتاب، والجهاد في سبيل الله، وان كان في عاجل ذلك ما تكرهون، فان في آجله ما تحبون إن شاء الله، ولقد علمتم أن علياً صلى مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده، وإنه يوم صدّق به لفي عاشرة من سنه، ثم شهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جميع مشاهده، وكان من اجتهاده في مرضاة الله وطاعة رسوله، وآثاره الحسنة في الإسلام ما قد بلغكم.
ولم يزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه وآله راضيا عنه حتى غمّضه بيده، وغسله وحده، والملائكة أعوانه، والفضل ابن عمه ينقل إليه الماء، ثم أدخله حفرته، وأوصاه بقضاء دينه، وعداته، وغير ذلك من أموره، كل ذلك من الله عليه، ثم والله ما دعا إلى نفسه، ولقد تداكّ الناس عليه تداكّ الإبل الهيم عند ورودها، فبايعوه طائعين، ثم نكث منهم ناكثون بلا حدث أحدثه، ولا خلاف أتاه، حسداً له وبغياً عليه، فعليكم عباد الله بتقوى الله وطاعته، والجد والصبر، والاستعانة بالله، والخفوف إلى ما دعاكم إليه أمير المؤمنين، عصمنا الله وإياكم بما عصم به أولياءه وأهل طاعته، وألهمنا وإياكم تقواه، وأعاننا وإياكم على جهاد أعدائه؛ واستغفر الله العظيم لي ولكم

>>>>>