بسم الله الرحمن الرحيم



حلمه وعفوه :

لقد عُرف الإمام الحسن المجتبى بعظيم حلمه، وأدلّ دليل على ذلك هو تحمّله لتوابع صلحه مع معاوية الذي نازع علياً حقّه وتسلّق من خلال ذلك الى منصب الحكم بالباطل، وتحمّل بعد الصلح أشد أنواع التأنيب من خيرة أصحابه، فكان يواجههم بعفوه وأناته، ويتحمّل منهم أنواع الجفاء في ذات الله صابراً محتسباً .
وروي أنّ مروان بن الحكم خطب يوماً فذكر علي بن أبي طالب، فنال منه والحسن بن علي جالس ، فبلغ ذلك الحسين فجاء الى مروان فقال : يا ابن الزرقاء! أنت الواقع في عليّ؟!، ثم دخل على الحسن فقال : تسمع هذا يسبّ أباك ولا تقول له شيئاً؟!، فقال : وما عسيتُ أن أقول لرجل مسلّط يقول ما شاء ويفعل ما يشاء .

كرمه وجوده :

إنّ السخاء الحقيقي هو بذل الخير بداعي الخير، وبذل الإحسان بداعي الإحسان، وقد تجلّت هذه الصفةالرفيعة بأجلى مظاهرها وأسمى معانيها في الإمام أبي محمد الحسن المجتبى حتى لُقّب بكريم أهل البيت .
فقد كان لا يعرف للمال قيمةً سوى ما يردّ به جوع جائع، أو يكسو به عارياً، أو يغيث به ملهوفاً، أو يفي به دين غارم ، وقد كانت له جفان واسعة أعدّها للضيوف، ويقال: إنّه ما قال لسائل «لا» قَطّ.
وقيل له : لأىّ شيء لا نراك تردّ سائلاً ؟ فأجاب : «إنّي لله سائل وفيه راغب، وأنا أستحي أن أكون سائلاً وأردّ سائلاً ، وإنّ الله عوّدني عادةً أن يفيض نعمه عليَّ ، وعوّدته أن أفيض نعمه على الناس، فأخشى إن قطعت العادة أن يمنعني العادة» .
واجتاز يوماً على غلام أسود بين يديه رغيف يأكل منه لقمة ويدفع لكلب كان عنده لقمة اُخرى ، فقال له الإمام : ما حملك على ذلك؟ فقال الغلام : إنّي لأستحي أن آكل ولا اُطعمه .
وهنا رأى الإمام فيه خصلة حميدة، فأحبّ أن يجازيه على جميل صنعه، فقال له : لا تبرح من مكانك، ثم انطلق فاشتراه من مولاه، واشترى الحائط (البستان) الذي هو فيه، وأعتقه وملّكه إيّاه .
وروي أنّ جارية حيّته بطاقة من ريحان، فقال لها : أنت حرّة لوجه الله، فلامه أنس على ذلك ، فأجابه : «أدّبنا الله فقال تعالى : (وإذا حُيّيتم بتحيّة فحيّوا بأحسن منها) وكان أحسن منها إعتاقها».
ومن مكارم أخلاقه أنّه ما اشترى من أحد حائطاً ثمّ افتقر البائع إلاّ ردّه عليه وأردفه بالثمن معه .

وجاءه فقير يشكو حاله ولم يكن عنده شيء في ذلك اليوم فعزّ عليه الأمر واستحى من ردّه، فقال له : إنّي أدلّك على شيء يحصل لك منه الخير ، فقال الفقير يا ابن رسول الله ما هو؟ قال: اذهب الى الخليفة، فإنّ ابنته قد توفيت وانقطع عليها، وما سمع من أحد تعزيةً بليغة، فعزّه بهذه الكلمات يحصل لك منه الخير، قال: يا ابن رسول الله حفّظني إيّاها، قال: قل له : «الحمد لله الذي سترها بجلوسك على قبرها، ولم يهتكها بجلوسها على قبرك»، وحفظ الفقير هذه الكلمات وجاء الى الخليفة فعزّاه بها، فذهب عنه حزنه وأمر له بجائزة، ثم قال له : أكلامك هذا؟ فقال : لا، وإنّما هو كلام الإمام الحسن ، قال الخليفة : صدقت فإنّه معدن الكلام الفصيح، وأمر له بجائزة اُخرى.
لقد كان يمنح الفقراء برّه قبل أن يبوحوا بحوائجهم ويذكروا مديحهم، لئلا يظهر عليهم ذلّ السؤال.



تواضعه وزهده :

إنّ التواضع دليل على كمال النفس وسموّها وشرفها ، والتواضع لا يزيد العبد إلاّ رفعةً وعظمةً، وقد حذا الإمام الحسن حذو جدّه وأبيه في أخلاقه الكريمة، وقد أثبت التاريخ بوادر كثيرة تشير الى سموّ الإمام في هذا الخلق الرفيع، نشير الى شيء منها :
أ ـ اجتاز الإمام على جماعة من الفقراء قد وضعوا على الأرض كسيرات وهم قعود يلتقطونها ويأكلونها ، فقالوا له: هلمّ يابن بنت رسول الله الى الغذاء، فنزل وقال : «إنّ الله لا يحبّ المستكبرين»، وجعل يأكل معهم حتى اكتفوا
والزاد على حاله ببركته، ثم دعاهم الى ضيافته وأطعمهم وكساهم.
ب ـ ومرّ على صبيان يتناولون الطعام، فدعوه لمشاركتهم فأجابهم الى ذلك، ثم حملهم الى منزله فمنحهم برّه ومعروفه، وقال : «اليد لهم لأنّهم لم يجدوا غير ما أطعموني، ونحن نجد ما أعطيناهم».
ورفض الإمام جميع ملاذّ الحياة ومباهجها متّجهاً الى الدار الآخرة التي أعدّها الله للمتّقين من عباده، فمن أهمّ مظاهر زهده : زهده في الملك طلباً لمرضاة الله، ويتجلّى ذلك إذا لاحظنا مدى حرص معاوية على الملك واستعماله لكلّ الأساليب اللاأخلاقية للوصول الى السلطة، بينما نجد الإمام الحسن يتنازل عن الملك حينما لا يراه يحقّق شيئاً سوى إراقة دماء المسلمين.
ومن جملة مظاهر زهده أيضاً: ما حدّث به مدرك بن زياد أنّه قال : كنّا في حيطان ابن عباس، فجاء ابن عبّاس وحسن وحسين فطافوا في تلك البساتين ثم جلسوا على ضفاف بعض السواقي ، فقال الحسن : يا مدرك! هل عندك غذاء؟ فقلت له : نعم، ثم انطلقت فجئته بخبز وشيء من الملح مع طاقتين من بقل، فأكل منه، وقال : يا مدرك! ما أطيب هذا؟ ، وجيء بعد ذلك بالطعام وكان في منتهى الحُسن، فالتفت الى مدرك وأمره بأن يجمع الغلمان ويقدّم لهم الطعام، فدعاهم مدرك فأكلوا منه ولم يأكل الإمام منه شيئاً، فقال له مدرك : لماذا لا تأكل منه؟ فقال: «إنّ ذاك الطعام أحبّ عندي».