ولما قتل أصحابه وأهل بيته ولم يبق أحد منهم ، تهيأ للموت ولقاء الله عز وجل. فدعا ببردة رسول الله (ص) فالتحف بها ، ثم أفرغ عليها درعه ، وتقلد سيفه واستوى على متن جواده ، ثم توجه نحو القوم ، وقال (ع): (ويلكم علامَ تقاتلونني ؟ على حقٍ تركته ؟ أم على شريعة بدلتها ؟ أم على سنّة غيرتها ؟). قالوا: نقاتلك بغضاً منا لأبيك وما فعل بأشياخنا يوم بدر وحنين.
ثم بدأ يحمل عليهم وجعلوا ينهزمون من بين يديه كأنهم الجراد المنتشر، ثم رجع الى مركزه وهو يقول : (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم). فصاح عمر بن سعد : الويل لكم ! أتدرون من تقاتلون ؟ هذا ابن الأنزع البطين ، هذا بن قتال العرب ، احملوا عليه من كل جانب . فحملوا عليه ، فحمل عليهم كالليث المغضب ، ثم صاح : (ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحرارا ً في دنياكم ، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً... انا الذي اقاتلكم وانتم تقاتلونني ، والنساء ليس عليهن جناح . فامنعوا عتاتكم وجهالكم عن التعرض لحرمي ما دمت حياً).
ثم نادى (ع) : (هل من ناصر ينصرني ، هل من معين يعينني ؟). فخرج زين العابدين وهو مريض لا يتمكن ان يحمل سيفه. وام كلثوم تناديه بالرجوع. فقال: يا عمتاه ذريني أقاتل بين يدي ابن رسول الله (ص). فقال الحسين (ع): (خذيه ، لئلا تبقى الأرض خالية من نسل آل محمد صلى الله عليه وآله).
وفي رواية ان الحسين (ع) احتمله الى الخيمة ثم قال (ع): (ولدي ما تريد أن تصنع ؟). قال: أبه ان نداءك قطع نياط قلبي ، وأريد أن أفديك بروحي. فقال الحسين (ع): (يا ولدي أنت مريض ، ليس عليك جهاد، وأنت الحجة والإمام على شيعتي ، وأنت أبو الائمة ، وكافل الأيتام والأرامل ، وأنت الراد حرمي الى المدينة). فقال زين العابدين: أبتاه تقتل وأنا انظر إليك ؟ ليت الموت أعدمني الحياة ، روحي لروحك الفداء ، نفسي لنفسك الوقاء.
ثم ذهب الحسين (ع) الى خيام الطاهرات من آل النبي (ص) ، وقال لهن : (استعدوا للبلاء واعلموا ان الله حافظكم وحاميكم ، وسينجيكم من شر الأعداء ، ويجعل عاقبة أمركم الى خير ، ويعذب أعاديكم بأنواع العذاب ، ويعوضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة ، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم).
ثم عاد الحسين (ع) الى القوم وحمل عليهم ، وكانت الرجال تشدّ عليه فيشدّ عليها ، فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا حلّ فيها الذئب. فجعلوا يرشقونه بالسهام والنبال ، فوقف ليستريح ساعة (أي لحظة)، وقد ضعف عن القتال . فبينما هو واقف إذ أتاه حجر فوقع على جبهته. فأخذ الثوب ليمسح الدم عن عينيه، أتاه سهم محدد مسموم له ثلاث شعب فوقع السهم في صدره على قلبه. فقال الحسين (ع): (بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله ). ثم رفع رأسه الى السماء وقال : (اللهم انك تعلم انهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن نبي غيره). ثم أخذ السهم وأخرجه فانبعث الدم كالميزاب ، فوضع يده على الجرح فلما امتلأت دماً رمى بها الى السماء ، ثم وضع يده على الجرح ثانية فلما امتلأت لطخ به رأسه ولحيته ، وقال: (هكذا أكون حتى ألقى جدي رسول الله (ص) وأنا مخضب بدمي ، أقول: يا رسول الله قتلني فلان وفلان).
ثم طعنه صالح بن وهب ، فسقط عن الفرس ، وهو يقول : (بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله... صبراً على قضائك وبلائك ، يا رب لا معبود إلا سواك).
ثم صاح عمر بن سعد بأصحابه: ويلكم أنزلوا وحزوا رأسه. وتردد بعضهم وانهزم الآخر ، حتى أقبل شمر بن ذي الجوشن وجلس على صدر الحسين (ع) وحز رأسه ....
ألا لعنة الله على القوم الظالمين.