الاستنساخ البشري
تصدرت هذه الكلمة العناوين الرئيسية لكل مجلات وصحف العالم ولم يسلم منها لسان أي شخص ، ولعبت دوراً عجيناً في تشغيل عقول العالم وبخاصة المفكرين والباحثين منه ، فمع أن عصرنا هو عصر الصرعات لكن هذا الحدث كان أعلى صرخة دوت في أرجاء المسكونة ، طاغياً على كل حدث وذلك منذ سنة 1996 عندما نجح العالم ( أيان ويلمون ) في استنساخ كائن حي بطريقة غريبة ومختلفة عن الطريقة الطبيعية للتكاثر الجنسي ، ومن تلك السنة لحد الآن يطور العلماء أبحاثهم ويعلنوا من فترة لأخرى إنهم توصلوا لأمور جديدة في تطوير هذه العملية ، وبدت تصريحات البعض منهم تعلن وتدق ناقوس الخطر على ما سمي بحرم الحياة وقدسيتها ، وبدا العالم يبيت في قلق واضطراب ، فتضاربت الآراء بين مؤيد ومعارض ، الذي أدى في الأيام الأخيرة إلى خطوات جادة من قبل حكومات العالم ، فالكثير منها لم يمنع هذه الأبحاث في بلاده فحسب بل طالب مجلس الأمن وهيئاته المتخصصة بالتقصي في الأمر بفرض عقوبات على الأطباء الذين يبغون قدماً لتحقيق أحلامهم والمطالبة بمعاقبتهم وامثالهم أمام المحاكم الدولية ، فالرئيس الأمريكي جورج بوش منع هذه الأبحاث بشدة وكذلك البرلمان الألماني والكندي والفرنسي والكثير من الدول الأوروبية أعلنت قلقها من خطورة هذه الأبحاث ، واعتبروا استنساخ الأجنة البشرية أمرا غير أخلاقياً يؤدي إلى مشاكل لا يمكن التكهن بمدى ضررها وتأثيرها على مراحل الحياة ، ولكن بالجانب الآخر سُمح للعلماء والباحثين ووفق لمراقبة أمنية بإجراء هذه العملية في مراحلها الأولى وذلك للاستفادة من خلايا المنشأ في مراحل التكوين للخلايا المستنسخة ، وباختصار شديد لموقف الدول والرأي العالمي نقول أنهم منعوا استنساخ الأجنة البشرية للتكاثر ولكنهم سمحوا الاستنساخ للإفادة من خلايا المنشأ وذلك للعلاج الطبي وإيجاد أعضاء تزرع مكان الأعضاء التالفة .
تعاريف علمية :
ولإفادة القارئ أعّرف بعض المصطلحات العلمية واشرحها بإيجاز مبتدئين من الخلية ومكوناتها ، فالخلية هي اصغر وحدة حية في أي نسيج من كائن حي واجتماعها يكون الأعضاء بتنوعها والجزء الذي يهمنا في الخلية هو النواة وهي مركز الخلية المسيطرة عليها وداخل هذه النواة توجد التركيبة الوراثية التي تقوم بتحديد الصفات للكائن الحي وهي التركيبة ( دي – ان –أي ) تقوم بعملية عجيبة تتفرد بها عن أي شئ آخر إذ إنها تقوم بنسخ ذاتها فتنتج نفس التركيبة ونفس الصفات ذاتها في خلية أخرى تنفصل عن الخلية الأم ونتيجة هذا الاستنساخ الطبيعي ينمو جسم الكائن ويتطور ، ويوجد استنساخ آخر في الجسم وهو الاستنساخ التكاثري وهو يختص بالخلايا الجنسية عند الذكر والأنثى ، فعندما تلقح البويضة بالنطفة يتم اجتماع التركيبتين الوراثيتين من الجانبين ، فعلى سبيل المثال ، التركيبة الوراثية عند الإنسان تحوي 46 صبغي وراثي وهذا العدد موجود في كل خلايا الجسم بنفس التركيب وبنفس الترتيب ما عدى الخلايا الجنسية عند الرجل والمرأة فعدد الصبغياة 23 صبغي في كل منها وفي لحظة التلقيح يكمل العدد فتبدأ البويضة بالانقسام وبعدها يتكون جسم الإنسان فهذا هو الاستنساخ الطبيعي الذي ننمو به ونتكاثر ، أما الاستنساخ المصطنع الذي أحدث هذه الضجة وهذا الاهتمام الملحوظ من قبل العلماء والسياسيين واللاهوتيين وهو موضوع هذا المقال أيضا فهو يحدث على هذه الطريقة ، في المختبر العلمي تنزع نواة أي خلية من أي عضو في الجسم وتلقح في بويضة مفرغة من نواتها وبهذه الطريقة تبدأ البويضة بالانقسام وفي مراحلها الأولى توضع في الرحم فيحدث الحمل وينمو الجنين بصورة شبه طبيعية وتحدث الولادة وهذه العملية أجريت على حيوانات عديدة من خراف وفئران وخنازير ، أما الأمر الذي وقف أمامه العلماء باندهاش فهو إنهم استطاعوا في هذه التجربة أن يحصلوا على جنين من دون وجود الحيوان المنوي أو حتى البويضة في أجزائها الكاملة ، فهم استخدموا نواة من خلية عادية في الجسم ولقحوها في بويضة مفرغة من نواتها ، إلا أن هذه التجارب كما ذكرنا أجريت على حيوانات ولكنها لم تنجح بعد على الإنسان ، فكل الذي حصل عليه العلماء هو الانقسام السادس للخلية وموتها بعد ذلك وعدم اكتمالها ، ويؤكد الباحثين أن نسب نجاح هذه العملية على الإنسان لا تعدى من2-1 % ، فعلى سبيل المثال في التجربة الأولى لنسخ النعجة التي سميت دولي حاول العلماء على 275خلية قبل أن تكتمل ، وقد تكون نسبة نجاح العملية ضئيلة بسبب منع الدول والحكومات لتطوير هذه الأبحاث وعدم الدعم المادي لها ، لكن السؤال الذي يبقى مطروحا بلا جواب ، بالرغم من وجود رقابة طبية ومنع هذه التجارب بشكل عمومي ودولي هل يمكن أن يتوقف العلماء عن أبحاثهم في مختبراتهم ؟ هل يوجد ضمان كافي من عدم دعم هذه الأبحاث ماديا من قبل مؤسسات الأدوية ؟
ويبقى شيء خطير نوضحه عن موقف الدول من هذه العملية ، فعل الرغم من إنهم منعوا الاستنساخ التكاثري كما ذكرنا إلا إنهم سمحوا به لاستخلاص خلايا المنشأ وهي الخلايا الغير متخصصة التي تنمو وتتطور لتشكل أنسجة الجسم المتنوعة ، ومن هنا تبدأ نقطة الإفادة من هذه العملية كما يعتقد العلماء إذ إنهم يريدون استخلاص خلايا المنشأ لتطويرها مخبرياً لتصبح خلايا تستخدم عوض الخلايا التالفة في الجسم ، وفي الحقيقة هذا البحث يلقى تشجيعا من علماء وأطباء كثيرين وذلك بعد فشل البدائل الأخرى من زرع الأعضاء في الجسم وما يلاقي عمليات الزرع هذه من مشاكل وصعوبات في رفض الجسم لها وأيضا في عدم توفر هذه الأعضاء لمرضى كثيرين ، فكل هذه المشاكل يعتقد العلماء وبتفاؤل ملحوظ أن هذه العقبات سوف تنحل عن طريق تطوير الاستنساخ لخلايا المنشأ على الرغم من أن الأبحاث لا تزال تحبو في بدايتها .
وهنا يبقى السؤال الأهم لنا ( هل هذه العملية هي تلاعب في خليقة الله ؟ أم إنها الطريقة الوحيدة لحل مشاكل الأمراض التي لا يوجد لها علاج ؟ )
وقبل أن أجيب على هذه الأسئلة أريد أن أقول واعترف بأن هذا المقال قد لا يعبر عن موقف الكنيسة المسيحية التي تنظر إلى مثل هذه الأمور بأنها مساس لترتيب الله ، فالفاتيكان أعرب عن قلقه وأسفه عن مايحدث في مختبرات العلماء ولكن الكنيسة في انكلترا كانت اكثر متحررة وذلك لأنها سمحت للتجارب أن تحدث لاستفادة من خلايا المنشأ ، ولكن على أي حال لم تجد هذه العملية صدوراً مفتوحة من الأوساط المسيحية وحتى في ديانات أخرى أيضا .
ولذلك أطرح الموضوع بشكل شخصي وأقول مبتدأ من طبيعة الإنسان نفسها :
إن الإنسان كائن مخلوق على صورة الله ، فالله هو الكائن الذي أبدع الكون وخلق الإنسان بخلاف المخلوقات الأخرى وميزه بقدرته على الإبداع والاختراع ، لذلك نجد الإنسان وفي حقب تاريخية كيف يتطور وينتقل في مسيرة الحياة من مرحلة إلى أخرى ، وقد لا يكون هذا التطور أو التغير شيئاً جيداً بحد ذاته ، وذلك لأن الطبيعة البشرية الشريرة متأصلة في داخله ، ولكن هذه النقلات كان لابد منها في مسيرته ، لأن طبعه الطموح وروحه المتأملة تفتح له الطرق قبل أن يكون حتى له المقدرة على تحقيق الهدف، فكل هذه التقنيات العلمية وهذا التقدم الصناعي وهذه النهضة الفكرية لم تأتي بلمحة بصر بل أخذت وقتاً طويلاً ليكون الإنسان ما هو عليه الآن.
وفي الحقيقة يوجد في الإنسان عطش يحثه دائماً على تقصي الحقيقة والوصول إلى المعرفة ، وكأنه يسأل دائماً عن كيفية وجوديه وذلك من خلال اكتشافه لمحيطه، فيوماً بعد يوم يحاول أن يحل هذه الأحجية ويفك عقد هذا السر العظيم وهو سر الحياة ، سابحاً في محيط هذا العالم لعله يصل إلى قراره ونهايته ، وفي رأيي الشخصي هذه الأبحاث ليست إلا نتيجة هذا الاشتياق الذي في قلب الإنسان حباً في المعرفة .
نقطة أخرى بالنسبة إلى كل الاختراعات والاكتشافات العلمية في أنها دائماً تكون واقعة على حد الفصلين ، فالعلم دائماً له منفعة عظيمة إذا استخدم لأجل المنفعة العامة ، وله ايضاً الأثر المدمر إذا استخدم لأجل المقاصد والمصالح الشخصية ، والأمر متوقف على إنسانية وأخلاق المسؤل والمسيطر على العمل والبحث ، ولكن على أي حال العجلة تدور والله ناظر لما يحدث .
ونقطة أخرى مهمة عن موقفنا من هذه الاكتشافات التي نراها ونسمعها بين الفترة والأخرى ، فإذا منعناها وشجبناها فعلينا أن ننظر إلى الوراء وإلى ما اقترفته عجلة التطور من دمار وفساد على البيئة كلها ، فهذا التطور كان له ثمناً ولكن ثمنه كان غالياً بعض الشيء في بعض الأحيان ، فمنع الاستنساخ وهو موضوع تساؤلنا اليوم ليس الجريمة العظمى بل إنه قد يكون شوكة غرست في جسم الإنسانية بعد أن كان جسدها قد تفشى بالمرض الخبيث.
هل عملية الاستنساخ تؤدي إلى قتل الأجنة ؟
هذا السؤال هام وخطير جدا ، والذي يحدث في الأوساط الدينية من سوء فهم لكثير من الأمور العلمية في عدم إدراكهم الكامل لحجم الموضوع ، ففي مثل هذه الحالة يعتبرون الخلايا التي تحدث عليها التجارب من أنها كائنات بشرية يقوم العلماء بقتلها وهنا برأيي يكون رد العلماء والأطباء هو الأدق والأقرب إلى الحقيقة من الآراء في الأوساط الدينية المحافظة ، وذلك نتيجة تفهمهم لهذه الحالة أفضل من غير المتخصصين في مجال الطب ، فالأطباء والباحثين يؤكدون وبشدة أنهم لا يقومون ولا حتى يفكرون باستنساخ كائن بشري وذلك لأسباب طبية بحتة ، و منها تلك التشوهات التي تطرأ على الجنين ولكنهم يقومون بالاستنساخ لاستخلاص الخلاية الجذعية في مراحل انقسام الخلية الأولى قبل أن تخصص وتصبح جنينا ، فأغلب الديانات ترى أن الجنين يبدأ من نقطة التقاء النطفة مع البويضة ، وبذلك يكونون 46 صبغي وراثية ، أما الذي يحصل في الاستنساخ فهذه 46 صبغي تأتي من طرف واحد وليس من طرفين ، فالذي يحدث بعبارة أخرى هو عبارة عن تكاثر خلايا ليس إلا ، ولا نستطيع أن نقول عنه جنين أو كائن بشري حقيقي .
وعند هذه النقطة اقر وأعترف من قلقي الشخصي على الذي يدور في العالم فالخوف من المستقبل ومن طبيعة الإنسان الشريرة إذا ما استغلت سلطة العلم لأجل الربات وحب السيادة ، فنحن ويوما بعد يوم نطور معرفتنا لكل شيء ، وهذا شيء مدهش وجميل ولكنه يوما بعد آخر أيضاً نقوم بدفع عجلت نهايتنا وفنائنا ، فالإنسان غزا العالم وتسلط على الطبيعة بشكل مخيف ، فمشاكل الحياة تعقد وتتضخم بشك يدعو للفزع ، ولا يسعني في هذه اللحظات إلا أن ارفع عيني إلى خالق هذا الكون مناشداً إياه أن يفتح بصائرنا إلى حب المعرفة لكن لأجل الخير ولأجل أن نتمثل على الأرض كمسؤلين على هذه الخليقة لنعلن مدى قوته وحكمته ومحبته في إيجادها.
المفضلات