وهذا ينطبق على الصناعة أكثر من الزراعة، كما إن كميات كبيرة من الزئبق الموجود في البرِّ أو البحر وجدت في الصخور بفعل الطقس، وقد مثّل أحد العلماء السلسلة الغذائية التي تتأثر بواسطـة المبيـدات بقوله إن حشرة صغيرة قد تأكل حافة أحـد أوراق النبات الملوث بالمبيد الحشري، ثم تأتي حشرة أكبر فتلتهم عدداً من هذه الحشرات الصغيرة، ويأتي بعد ذلك عصفور نهم فيأكل أعداداً كبيرة من هذه الحشرات، وأخيراً يأتي صقر مفترس فيلتهم هذا العصفور(8).

والملاحظ إن كل خطوة مـن هـذه الخطوات تؤدي إلى تركيز المبيد الحشري في جسم الحيوان، ويبلغ هذا التركيز حدّهُ الأقصى في جسم الحيوان الذي في نهاية السلسلة ويكون مأكولاً للإنسان. ويبدو تأثير هذه السلسلة في كثير من الأماكن ففي بحيرة (كلير) بولاية كاليفورنيا يستعمل بنسبة ضئيلة من مبيد الحشرات يماثـل الـ(دي دي تـي) يعرف باسم (دي دي دي) بتركيز لا يزيد عن 14% مـن المائة جزء فـي المليـون للقضاء على إحدى الكائنات غير المرغوب فيها، ووجودها في مياه هـذه البحيرة، ومع مضي الوقت لوحظ موت بعض الأسماك التي تعيش فـي هذه البحيرة كذلك بعض الطيور والبط البريّ.

وقد تبين في التحليل إن ماء البحيرة يحتوي على 14% من المائة جزء في المليون من هذا الجزء، إلاّ أن هـذه النسبة ارتفعت إلى (221 جزءاً) في المليون في الأسماك الكبيرة، وإلى نحو (2500 جزءاً) في المليون في الأنسجة الدهنية للبط البري الذي يعيش فوق سطح هذه البحيرة.

وقد تبين أن مبيد (دي دي تي) يدخل في العمليات الكيماوية المؤدية إلى تكوين عناصر الكالسيوم في أجسام الطيور، ويؤدي ذلك إلى وضع هذه الطيور بيض رقيق القشر لا يتحمل الصدمات، وقد يتهشم هذا البيض تحت ثقل جسم أنثى الطائر عندما تحتضنه للتدفئـة أو عندما تحرّكه لتجعلها ظهراً لبطن، مما ينتج عنه موت الأجنّة، وتتعرض هذه الطيور لخطر الانقراض.

ومن أمثلة الطيور التي أوشك بعضها علـى الانقراض لهذه الأسباب، النسر الأمريكي والصقر وطائر البليكان وغيرها.

وقد اكتشف المهتمّون بحماية الحياة البريّة وجـود قسم من المبيدات في بيض النوارس، وهو أمر يسبب فـي موت أجنَّة الطيور داخل البيض، كما وإنه تؤثر مبيدات الآفات في النحل والحشرات الملقّحة الأخرى، مما يؤدي في النهاية إلى انخفاض معدل التلقيح في الأزهار بالإضافة إلى ضعف قوة طوائف النحل نتيجة لموت عدد كبير مـن الشغّالات التي تقوم بجمع الرحيق، وقد ترتب على ذلك انخفاض مهول للعسل بالإضافة إلى انخفاض إنتاجية المحاصيل الحقلية والبستانية، وكثيراً مـا يدخل العسل مـن هـذه المبيدات فإذا أكله الإنسان تسبب له أمراضاً.

وقد ظهرت هذه المشكلة بصورة خطرة في مـــصر بعد تنفيذ نظام الرشّ الجوي للمبيدات بالطائرة والذي أدى إلى قلّة المحاصيل.

والنتيجة طبعاً ازدياد نسبة الفقراء والجياع وبالتالي سوء التغذية وانتشار الأمراض، كما حدث في مصر وبعض البلدان الأخرى كما أن اختلال حجم السكان في مصر من ناحية الزيادة ومن ناحية قلة المساحة المزروعة يعدّ إحدى المعوقات الهامة للإنتاج الزراعي بالإضافة إلى ما ذكرناه.

وفي بداية هذا القرن لـم يتجاوز عدد السكان في مصر (10 ملايين) نسمة، وفي سنة 1356هـ (1937م) زاد عـدد السكان ليصل إلى حوالي (15 مليون) نسمة، ثـم أصبح (18 مليون) سنـــة 1366هـ (1947م) و(23 ملـــيون) ســــنة 1379هـ (1960م) ليصل إلى زهاء (49 مليون) سنة 1404هـ (1984م) وفـي مواجهة تلك الزيادة المستمرة لحجم السكان لم تحقق الرقعة الزراعية نمواً مماثلاً نتيجة ترك العمل بالقوانين الإسلامية والتي منها (الأرض لله ولمن عمرها)(9) وقاعدة (من سبق)(10) وغير ذلك. فمنذ بداية هذا القرن حتى سنة 1405ه (1985م) والرقعـة الزراعية تتراوح بين (6 ملايين) فدّان وشيء، فقد تعرّضت فـي السنوات الأخيرة لخطر التجريف والزحف العمراني من البيوت والمنشآت الصناعية ومشروعات الطرق والمرافق. وبالتالي تم تحويل جزء كبير من الأراضي الزراعية إلى استعمالات غير زراعية، وكان نتيجة ذلك أن انخفض متوسط نصيب الفرد من الرقعة الزراعية انخفاضاً شديداً. فقد كان هذا المتــــوسط فـي سنة 1379هـ (1960م) يدور حول 22% من الفدان ثم انخفض ليصل إلـى 16% مـن الفدان سنة 1395هـ (1975م)، وأخيراً انخفض هذا المتوسط حتى وصل إلى 13% من الفدان طبقاً لإحصاءات سنة 1405هـ (1985م). فإذا انضم هذا إلى ما ذكرناه من التسمّم والتلوث تكون النتيجة الجوع.

هذا بالإضافة إلى إنّ الإصلاح الزراعـي الذي نفّذه جمال عبد الناصر خفّض المستوى لأنه بدّل الأيدي المديرة إلـى أيدي غير مديرة، كما حدث ذلك في العراق في عهد عبد الكريم قاسم(11) أيضاً، فقد كان العراق يصدّر الكثير من المحاصيل حتى الحنطة إلاّ أنه بعـد الإصلاح الزراعي أخذ يستورد حتى التبن.

وقـد كتب الأخ السيد صادق (حفظه الله) دراسـةً حول الإصلاح الزراعي الذي وقع في العراق، وطبعه ثم أمرت الحكومة إحراق الكتاب لأنها لم تجد جواباً لعلامات الاستفهام التي طرحها الكتاب.

وكان من آثار الإصلاح الزراعي نزوح الكثير من الفلاحين إلى المدن، لأن الربح في المدن أكثر من الربح في الزراعة الخاضعة للإصلاح الزراعي(12). وقـد فعـل مثـل ذلك ملـك إيران ـ محمد رضا ـ مسبباً اكتظاظ المدن بالفلاحين.

وقد نجم عـن الزحف الريفـي إلـى المدن ـ الناجم عن ذلك المنهج الاقتصادي الخاطئ ـ رخص الأيدي العاملة حسب قانون العرض والطلب.

وعلى أي حال: فمن البديهي إنه كلّما كان تركيز المبيد عالياً كانت الآثار الضارة الناتجة عنه كبيرة، وكذلك كلّما طالت هذه المدة ازداد الأثر السيئ للمبيد، ولا فرق هنا إن كان استعمال المبيد عبر آلات ميكانيكية أم بالرشّ عبر الطائرات أم بالتعفير باليد.

ثم لا يخفى أن لكل نوع من التربة ونسبة الرطوبة فيها ودرجة حرارتها وكونها قريبة من الشمس كخط الاستواء أو بعيدة عنها دور كبير في حفاظ التربة مـن مبيدات الآفات التي تتساقـط فيها أو تتسرّب إليها عند استخدام المبيدات لقتل الآفات الزراعية.

كما أنه تختلف قدرة النباتات على امتصاص المبيدات الحشرية لاختلاف أنواعها، فمثلاً: زراعة أنواع مـن البطاطس والفجل والجزر في تربة زراعية عولجت بمبيد (الألدرين) بمعدل رطل في الفدّان، ووجد أن البطاطس لم تحتو على بقايا من هذا المبيد يمكن قياسه، في حين احتوى الفجل على 3% من المائة جزء في المليون من هذا المبيد. واحتـوى الجزر على 5%. وبناءً على ذلك فإن الجزر من بين جميع المحصولات التي أجريت عليها الدراسات يحتوي على أكثر تركيز من البقايا الكيماوية للمبيد الحشري الموجود في التربة.

ومن الواضح أنه يؤدي استعمـال بعض المبيدات إلى حدوث أضرار في النباتات الخضراء وبخاصـة للمحاصيـل الحساسة والضعيفة النمو. وإذا ما استخدمت المبيدات بتركيز عالٍ مـن العناصـر المشابهـة لها أو بتوقيت غير مناسب أدّى ذلك إلى حدوث أضرار كبيرة جداً، والتي منها حروق للأوراق أو حدوث تحوّر في أشكالها مما يؤدي إلى جفافها ثم سقوطها ثم موت النبات في نهاية الأمر.

وقد يحدث الضرر نتيجة لوصول المبيد إلى العصارة النباتية مما سيؤدي إلى حدوث خلل داخلي في النشاط النباتـي، ثـم توقـف عمليات التمثيل الغذائي، وهو أمر يتسبب في موت النبات في نهاية المطاف.

كما وتسبب بعض المبيدات فـي إبادة الغابات الخضراء. ففي حرب فيتنام استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية مبيـد الحشائش لتعرية غابات الأشجار من أوراقها، وجعل تلك الغابات الكثيفـة عبارة عـن أعواد من الخشب كئيبة المنظر ليس بها من ورق أخضر، بل استعمل هذا المبيد في تدمير حقول الأرز.

وبناءً على ذلك فاللازم إيجاد رقابـة عالمية علـى المبيدات سواء مبيد الحشرات أو غير ذلك بعيداً عـن السياسـات الاستعماريـة وعن الغايات الاقتصادية حتى لا يتضرر الإنسان بالنتيجـة بهـا، أو يكون الضرر أقل من القليل، إلاّ أن الحضارة الحديثة لا تعير أية أهمية لهذه الأمور، لما ذكرنا سابقاً من فقدان الإيمان بالله سبحانه وتعالى والخروج عـن مظلّة الأنبياء، والأمران يسببان الانحراف عن الطريق المستقيم(13).

أمراض الحيوانات والنباتات

ومما يبحث في البيئة إجمالاً الأمراض التي تتعرض لها الحيوانات والنباتات معلولة لاختلال البيئة أو مسبّبة لها إذ تــتعرض النباتات والحيوانات إلى الأمراض كالإنسان، فالنخيل مثلاً تصاب بــأمراض خاصـة مثل تبقّع الأوراق ويعرف بالمرض الفحمي الكاذب أيضاً ويسببـه الفطر الذي يصيب السطح السفلي للورقة ويحدث بها بثرات بارزة لونهـا أسود داكن، وتتناثر من هذه البثور جراثيم الفطر المذكورة ويلاحـظ أن الإصابـة تتوجه في أغلب الأوقات إلى المساحة السُفلى القديمة مما يسبب اصفراره وجفافـه، الأمر الذي يحتم إزالة السعفات المصابة وإحراقها، ويعالج بالرشّ بمحلول خاص على دفعتين الأولى بمجرد ظهور الإصابة مباشرة، والثانية بعد أربع أسابيع مـن الرشّ الأول. ومثل ذلك اللفحة السوداء وأكثـر ما يتضح وجوده علـى السعف الحديث الغضّ، ومظهـره تقرّح بُني اللون لا يلبث أن يَسوَّد بتقدم الإصابة، وينتهي الأمر بجفاف الموضع المصـاب ويعالج بتقليم الأجزاء المصابة ثم الرشّ بمحلول خاص، كما يدهّن موضع الإصابة على الأوراق بعجينة خاصة، وقد انتشر هذا المرض من ساحل البحـر المتوسط شمالاً حتى أسوان جنوباً ويبدأ باصفرار الرأس فتتناثر جذوع النخل بـلا رأس، وهو مرض مدمّر لم يعرف علاجه. ومثل الحُلم الأبوفي ويصيب القلب حيث يجعل الأوراق معوجّة ملتصقة القوس مكتكتة هشّة يسهل كسرها، غـير منطلقة النمـو، تبدو وكأنها متسببة، ويعالج بالرشّ بالكبريت القابل للبلل. ومثل العفـن الدبيودي الذي يصيب الأوراق والقمّة النامية، وكـذلك المنطقة الجذرية ونتيجة للإصابة به تموت الفسيلة أو النخلة فجأة.

ويرى المختصون بأمراض النباتات إن العـلاج لهـذا المرض أن تغمر الفسائل قبل الزراعة في مخلوط خاص أو محلول خاص بنسبـة خاصة ثم تزرع الفسيلة مباشرة.

وكذلك عفـن نورات النخيل، وهذا المرض يصيب الشقائق الزهرية ويعرف بهذا الاسم، وتتميز أعراض الإصابة به بوجود بقع دميّة متقابلة على العراجيل مصحوبة بتعفن الشقائق الزهرية بما تحمله من أزهار حتى تتحول إلى كتلة دميّة مشوّهة مغطاة بالنمـو الأبيض بالفطر، وهو يتميز بلونه الأبيض الذي يتحول إلى الأحمر، وعلاج هذا المرض بأن يجري تعفير النخيل بمخلوط خاص من النحاس وما أشبه.

وهذه تعد جزء مـن الأمراض التي تصيب النخيل، أما الحشرات التي تصيب الشجرة أو الثمرة، فمـنها حشرة النخيل القشرية والحشرة القشرية السوداء، وحشرة النخيل القشرية الرخوة، وهـذه الحشرات تصيب السعف الخارجي. والبقّ الدقيقي وثاقبة النخيل وتحفر الحشرة في هذا المرض الكاملة في الجليد فتنشره الرياح كما تحفر فـي عراجيل البلح فتجـف الثمار وتكثر الإصابة بهذه الحشرة في بعض مناطق مصـر. كما سجّلت هذه الحشرة في بعض المناطق الأخرى، وهـذه الأمور هـي خاصة بالنخيل، وهكذا لكل شجرة أمراضها وأعراضها الخاصـة وعلاجهـا الخاص، وإنما ذكرنا النخيل كمثال حيث يكثر وجودها في العراق.

ولا يخفى أنّ عدد النخيل في العراق قبـل التدمير المتعمّد الذي قام به صدام كان على حسب بعـض الإحصاءات (32 مليون) نخلة، وقد وصل عددها بعد ذلك إلى (3 ملايين)، فقط فأصــــبح العراق يأتـــي بالمرتبة السادسة بعــــد أن كان يحتل المرتبة الأولى(14).

وتجري القاعدة على الحبوب أيضاً مثل الحنطة التي تتعرّض إلى مشاكل صحية فتسوسها سواء كانت فـي سنبلها أو كانت في خوابي خاصة، أما لو روعيت الشرائط فلا تسوس حتى لو مرّ عليها فترة طويلة.

وقد وُجد عند الفراعنة فـي مصر حنطة عمرها (4 آلاف) سنة، ولما زرعوها أخرجت ثمارها وكأنها حنطة هذه السنة.